أ. محمد أحمد الأفندي الغامدي.. ابن الباحة وتربية بيئة دينية وصقل أرامكوا.. دمث الخلق . يرحمه الله.
رحيل محمد الأفندي.. المثقف الإنسان..
بقلم د. سعيد بن أحمد الافندي. * الأمين العام لأوقاف جامعة الملك عبدالعزيز
والمشرف على كرسي الأمير نايف للقيم الأخلاقية. (عنه شخصيا).
توفي أخي محمد بن أحمد بن علي الأفندي الغامدي رحمه الله تعالى ليلة الأربعاء الموافق 18 /8 /1445هـ بعد معاناة طويلة مع المرض؛ كان فيها صابراً محتسباً راضياً بقضاء الله وقدره. لقد ترك المصاب الجلل برحيلك أخي الغالي محمد -أبا عبدالرحمن– أشد الحزن وبالغ الأسى والألم في إخوانك وفي أسرتك الكريمة وفي جميع من عرفك ، كيف لا ؟ وقد كان لأيامك الخوالي ذكريات لا تنسى، ومواقف هيأك الله لها ، لتكون بصمة في سجلك الحافل بالعطاء والبناء .
لقد تجلت فيك أخي محمد مجموعة من الصفات والسجايا، والمزايا والمواهب التي قل أن تجتمع في عبد من عباد الله. ولد أخي محمد في قرية الباحة؛ إحدى قرى منطقة الباحة الشامخة عام 1380 هجرية ، ودرس فيها جميع مراحل دراسته الأولى ، الابتدائي والمتوسط والثانوي ، وكان مميزاً بين أقرانه ، متفوقاً ونابهاً ، وقائداً موهوباً بفطرته .
وكان رحمه الله تعالى ذا تكوين علمي ممتاز ، تحصل عليه في مسيرة علمية جادة ، كانت انطلاقتها الأولى مع ما حباه الله من حب للمطالعة ، التي بدأ مشواره معها في مكتبة الوالد رحمه الله ، حيث كانت مكتبة ثمينة متنوعة ، وغنية بكل ما يتطلع إليه طالب العلم من أنواع الثقافة والأدب ، وفي هذه المكتبة العامرة نمت لديه ملكة القراءة ، وزاد حبه للمطالعة والمعرفة ، وبالخصوص منها ما يتعلق بالتاريخ والفن والشعر .
وانتظم بعد ذلك هذا الشغف بالمعرفة والعلم من خلال دراسته في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن ، والتي لم تكن تقبل في حينها الا المتفوقين من أنحاء البلاد ، ثم حصوله على درجة الماجستير من بريطانيا.
لقد أكسبه حبه للمطالعة ثقافة عظيمة في جميع العلوم والمعارف، وألف وترجم عدة كتب عن الانجليزية التي يجيدها ببراعة، وصدر له عن (الدار العربية للعلوم ناشرون) عددٌ من الكتب الثقافية ، والطبية المترجمة عن الإنجليزية.
ثم إنه بما آتاه الله تعالى من شخصية قيادية ، تجيد تنظيم العمل ، وتحسن قيادة الفريق نحو البناء والعطاء، فإنه بهذه السجايا والمكونات الإدارية بلغ أعلى المناصب في شركة أرامكو ، فكان بما تميز به من حسن الإدارة ، والسير بفريق العمل نحو الإنجازات الكبيرة ، والقفزات المتسارعة التي أسهم بها في هذه الشركة العملاقة، كل ذلك كان محلاً لتقدير رؤساءه وزملاءه.
لقد كان رحمه الله تعالى خبيراً اجتماعياً وأسرياً بين إخوانه وأحبابه ؛ فكثيراً ما كنا نرجع إليه في القضايا والمشكلات لنجد عنده الرأي السديد ، والتوجيه الحكيم والمعتدل.
لم يكن يقتصر حب أخي محمد رحمه الله تعالى للأدب مطالعة ، بل إنه مارسه كتابة ؛ فكان كاتباً روائياً، حيث أصدر مجموعة من القصص ، التي وثق فيها حقبة من تاريخ بلادنا ، من خلال ما كتبه عن الباحة. وقد قدم لهذه المجموعة المميزة أستاذنا العالم الفذ الدكتور عبداللطيف الصباغ رحمه الله في شهادة تستحق السرد ، حيث يقول فيها:
(الأخ الكريم الفاضل الأستاذ محمد “أبو عبد الرحمن” حفظكم الله ووفقكم لما يحبه ويرضاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحياتي الأخوية وتمنياتي الطيبة
وبعد ،،،
فهأنذا أبعث لكم بملف القصص القصيرة التي دبجتها يراعتكم الصناع ، وأصدقكم القول بأنها قصص تجمع بين الواقعية الحية والخيال الخصب ، وأن روح النقد ، والدعابة، وملكة التصوير الفني والتقاط التفاصيل المعبرة تزدحم فيها وتتظاهر ، وأنها قصص تدل على ذاكرة قوية، وطفولة ذكية تلتقط الصور والتفاصيل وتخزنها، وكأنها جهاز تصوير مع “زوم ” متقن جداً ، ومع قدرة تعبيرية تصويرية راقية ومحكمة ، إلى جانب الطرافة والإثارة والحبكة الجيدة والهدف السامي من وراء ذلك كله أنتم يا عزيزي الأستاذ محمد تحملون موهبة قصصية حقيقية، وملكة أدبية أصيلة، ومقدرة على التأثير في القارئ بأسلوب أدبي آسر ، ولا يجوز طمر ذلك كله ، ثم إن قصصكم تصلح لأن تكون مصدراً إتنولوجياً لتأريخ الحياة الأسرية والاجتماعية والثقافية في منطقتكم، أهنئكم وأبارك لكم بهذه القصص ، وأوصي بنشرها ، إما قصة قصة في إحدى المجلات ، وإما جمعها في كتيب صغير يحمل هذا العنوان ، وهو “قصص من القرية” أو: “قصص من قريتنا”.
وقد لاحظت حاستك النقدية القوية في كل ما كتبت، ومدى جرأتك واستيعابك في السرد، ومدى ثقتك في نفسك وأهلك وفي المعاني السامية ، وأقول لك بصدق: لقد استمتعت بقراءة هذه القصص وأفدت، وعشت معك في معرفة تلك الأوضاع قبل خمسين عاماً، والتي قدمت من خلال حكايتها، بريشتك الدقيقة النزقة، وملكتك التصويرية الفذة، صوراً نابضة بالحركة والحياة والجاذبية.
رحم الله والدكم الجليل ووالدتكم المكلومة الصابرة، وجزاهما عنكم خير الجزاء ، وجزاكم عنهما خير الجزاء وأوفاه ، وقد تأكدت الآن أنني أمام أسرة ذات معدن نفيس من الذكاء والعلم والأدب والمواهب المتعددة، ومن النبل والفضيلة، وهي ذرية بعضها من بعض ، والشيء من معدنه لا يستغرب.
وتفضلوا أنتم وإخوانكم الكرام ، وأخص بالذكر منهم أخي الأثير الدكتور سعيد، بقبول خالص تحياتي وصادق محبتي وتقديري.
أخوكم وصديقكم: عبد اللطيف الصباغ) انتهى كلامه رحمه الله.
وقد كان بين محمد وبين أستاذنا الصباغ محاورات ورسائل ثقافية تستحق الجمع والترتيب والإصدار ، حيث كان كلاهما يرسلانها لي، وكأنهما رحمهما الله يستودعاني إياها ، ويطلبان مني دون الإفصاح عن ذلك بأن أرصد المشهد ، وأكون شاهداً على تلك السجالات الثقافية الثرية ، وإصدارها في كتاب خاص في قادم الأيام بحول الله وقوته.
لقد كان أخي محمد رحمه الله مستقيماً في حياته ، نزيهاً في معاملاته ، مترفعاً عن ما في أيدي الناس ، ذو أخلاق عالية، وابتسامة آسرة ، وسيم المظهر والمخبر ، وصاحب مروءة وشهامة ونجدة ، باراً بوالديه ، مخلصاً صادقاً ومحباً أميناً لأسرته ، وأصدقائه ومجتمعه ، غيوراً على بلاده ، وفياً لولاة أمرها وقياداتها ورموزها.
وقد رزق بثلاثة من الأبناء النابهين المميزين ؛ وهم عبدالرحمن وعبدالعزيز وعمر حفظهم الله و اخواتهم الصالحات البارات.
أحسن الله عزاءنا وعزاء أسرته وأبناءه وزوجته الصابرة المكلومة الفاضلة أم عبدالرحمن وأصدقائه وزملاءه ومحبيه.
رفع الله درجات أخي محمد في المهديين ، وأخلفه في عقبه في الغابرين ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا : “إنا لله وإنا إليه راجعون” ، والحمد لله رب العالمين.
* الأمين العام لأوقاف جامعة الملك عبدالعزيز
والمشرف على كرسي الأمير نايف للقيم الأخلاقية