كتاب “مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ” يكشف أزمة القراءة
تحدثت قبل أيام عن الدور الجوهري للرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس في ربط العالمين –القديم والجديد- وذلك عند وصوله إلى أمريكا عام ١٤٩٢، لكني تفاجأت ببعض التعليقات التي تجزم بأن المسلمين هم من “اكتشفوا” أمريكا وليس كولومبوس “كما أدعي” والدليل على ذلك هو كتاب: مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ. الأمر الغريب ليس تأثر البعض بهذا الكتاب ، إنما باستشهادهم به كمصدر موثوق! هذا المقال ليس بصدد إثبات من وصل إلى أمريكا أولا وكأنه إنجاز، أو بمن له التأثير الباقي إلى اليوم، لكنه عن أزمة عميقة نواجهها في غياب مهارات القراءة الصحيحة.
الكتاب الذي ألفه “جهاد الترباني” عام ٢٠١٠ كارثة معرفية بجميع الأوجه، ويظهر ذلك جليا في غياب أهم عنصرين بأي كتاب: أمانة النقل ومنطقية الربط. هاتان المهارتان يفتقدهما عادة من يكتب تحت تأثير العاطفة، وينساق خلفه الذين يفتقدون لقدرات القراءة التحليلية ويسلّمون بكل ما هو مكتوب.
يمكن تصنيف الكتاب بأنه من كتب الاستشفاء أو “التربيت على الكتف” وهي كتب عاطفية معروفة يشتريها القارئ ليتفق معها، لتخاطب مشاعره، لتأخذه إلى عالم من الطمأنينة والراحة النفسية بعيدا عن الواقع. الكتاب هزيل من ناحية ثقافية، يفتقر كاتبها لأبجديات البحث العلمي وقد أثبت ذلك مرارا في ركاكة طرحه وهشاشة نقله.
الكتاب يستند إلى أحد أنجح الحيل في الإقناع وهي العزف على أوتار العاطفة الدينية والغيرة الإسلامية عند الناس. لا يمكن الاستهانة بقدرات هذا الأسلوب في صناعة الوهم فقد أثبت نجاحه مرارا وتكرارا آخرها باستخدامه لإقناع الناس بأن الأرض مسطحة، حيث يخيل للمتلقي بأنه ضحية مؤامرة تحاكى ضد دينه. ولهذا نجده يستخدم مصطلحات تآمرية مثل “الخديعة الكبرى” و”لقد آن الأوان لشباب هذه الأمة بأن ينتفضوا في وجه غزاة التاريخ” وأن “الهنود الحمر كانوا شعوبا إسلامية تمت إبادتهم من دافع صليبي حاقد على الإسلام” وغير ذلك من العبارات المستهلكة التي تخاطب عواطف القارئ لا عقله.
إن الطريقة الوحيدة للاستفادة من هذا الكتاب هي باعتباره نموذجا في تعلم أخطاء القراءة، لذا فإن هذا المقال سيحتوي على أمثلة ستساعد في اكتساب مهارات القراءة النقدية وكشف حيل الكتب المؤامراتية.
المثال الأول: المقدمةهذه أول جملة في مدخل الكتاب:”في عام ١٩٧٨م، قام أحد أستاذة التاريخ في أمريكا ويدعى البروفيسور مايكل هارت بتأليف كتاب أسماه: ((المائة الأكثر تأثيرا في التاريخ)) اختار فيه هذا المؤرخ الأمريكي الشهير مائة شخصية في التاريخ البشري على مستوى العالم ليكونوا أبطالا لكتابه، العجيب في الأمر أن مايكل هارت لم يكتف بذكر أسماء مائة شخصية يرى هو من وجهة نظره البحتة –كأستاذ للتاريخ الإنساني- إنها أعظم مائة شخصية أثرت في التاريخ، بل قام أيضا بإعطاء الحق لنفسه بترتيب أسماء أولئك المائة بمنهاج يراعي تفاوتهم في العظمة، أو ما يعتقد هو أنها عظمة.”يجب أن نتساءل قبل كل شيء عن صحة المنقول. هل فعلا قال “مايكل هارت” هذا الكلام؟ هل فعلا تحدث عن العظمة؟ عنوان كتاب “مايكل هارت” واضح وصريح أن القائمة عن الأكثر تأثيرا، وليست عن العظمة. فهل ذكر “هارت” ذلك في صفحات كتابه؟ لنذهب إلى أول صفحة من كتاب هارت.
يقول “هارت”:“I must emphasize that this is a list of the most influential persons in history, not a list of the greatest.””يجب أن أشدد على أن هذه قائمة لأكثر الشخصيات تأثيرا في التاريخ، وليست قائمة للأكثر عظمة.”نجد هنا أسوأ أنواع التحريف، وهو نسخ “عكس” ما يقوله الكاتب. يمكنك أن تستنج من أول جملة أن الكاتب يفتقر لأمانة النقل، فهو لم يكتف حتى بتجاهل مصادر معلوماته، إنما حوّرها على مزاجه.
المثال الثاني: لينكولن مسلمكتب “جهاد” هذه الجملة في مطلع إحدى فصول الكتاب:”لست إلا مجرد كاتب مبتدئ ليس لي من الرصيد الأدبي ما يساعد على إثبات مصداقية ما أدعو إليه من الناحية الأكاديمية.”ثم أتمّ الفصل بادعاء عظيم وهو أن الرئيس الأمريكي “أبراهام لينكولن” كان مسلما بناء على خمسة أدلة:1- أصله2- غموضه3- تحريره للعبيد4- شك5- اغتيالهأعلم أن سذاجة الكلام السابق تتجاوز حدود المعقول، لكني أؤكد أن ما ذكرته منقول بأمانة من الصفحة ٣٠٠ من الكتاب.لنتأمل بالجملة الأولى وهي مألوفة فعلا عند الكتاب المبتدئين، لماذا ينتقص الكاتب من نفسه ويستصغر من مخزونه الثقافي بل ويؤكد أنه يفتقد لحرفية الاستشهاد بالمصادر؟ الإجابة ببساطةهي أنه يريد أن يضع سذاجته فوق النقد. هذا أسلوب قديم ومستهلك. المعلومة التي تفتقر للدليل لا يعتد بها. الكاتب الواثق لا يستلطف القارئ لتصديق ادعاءاته. من يُصدر أي كتاب يتحمل مسؤولية ما نشره. لا أحد فوق النقد.يمكننا أن نصنف الأدلة المطروحة في هذا المثال على أنها استخفاف بعقل القارئ. أصله وشكله؟ بهذا المنطق يكون أوباما مسلما! هل لك أن تتخيل أن الكاتب توصل إلى خفايا إنسان لم يدعي بحياته أنه مسلم من خلال النظر إلى حوضه الجيني وغرابة شخصيته وإنجازات حروبه وشعر وجهه وطريقة موته؟ ما هذه السطحية؟ تحليل الحجج وعدم التسليم بها هي النقطة الفاصلة بين القارئ والمتلقن.المثال الأهم: أمريكا١نأتي إلى طريقة إثبات “جهاد” لكيفية وصول المسلمين إلى قارتي أمريكا قبل كولومبوس.يمكن تقسيم أدلته إلى ٣ أنواع:١- اقتباسات من كتب٢- أسماء مدن وقبائل٣- وثائق وخرائط قديمةنعود هنا إلى السؤالين المهمين: هل هذه الأدلة حقيقية؟ هل هي منطقية؟
أولاً، هل اقتباسات الكتب تعد مصدرا موثوقا بالأساس؟ ليس في هذا الزمن، فلا يوجد مثلا ما يمنعني أنا من تأليف كتاب أذكر فيه أن “أبراهام لينكولن” كان مسلما مؤكدا أن المعلومة من كتاب “جهاد”! في عصر أصبحت فيه الكتابة متاحة للجميع، يكون الأولى بذكر الأدلة الأصلية، وليس نقل الجمل من المؤلف وإن كان باحثا من هارفارد. ابتداء الجملة بـ”قال الباحث الأمريكي” لا يعني أن ما يليها صحيح أبداً.ثانيا، هل أسماء المدن والقبائل حقيقية؟ شخصيا خلال بحثي لم أجد أيا منها! ولو أني وجدتها فعلا، هل يعني ذلك أن تلك المدن قد تم استيطانها من قبل المسلمين؟ في مصر اليوم مدينة تعود للعصر الفرعوني اسمها مميفس (مفر)، وهو نفس اسم مدينة أمريكية شهيرة، هذا لا يعني أن الفراعنة وصلوا إلى أمريكا قبل آلاف السنوات، المدينة جديدة اقتُبس لها هذا الاسم، تماما كمدينة “فلسطين” في ولاية تكساس.أخيرا، هل الوثائق موجودة حقا؟ يذكر “جهاد” مثلا أن هناك وثيقة في متحف تاريخ أمريكا تؤكد وجود هدنة بين كولومبوس والمسلمين مع توقيع بحروف عربية من رجل من السكان الأصليين (كرر وصفهم بالهنود الحمر وهذا يدل بلا شك أنه لم يتواصل مع أي منهم وإلا لعلم أنه كرر إهانتهم عشرات المرات) اسمه محمد! أين هذه الوثيقة؟ ولماذا لا يوجد أي ذكر لها في الإنترنت؟ وأين هو مصدر المعلومة؟ لو أني ذكرت كل نقطة لم ينقلها الكاتب بأمانة أو ألفها من خياله ، فإن هذا المقال سيصبح كتابا لوحده.إذا ذهبنا إلى الخرائط، نجد أنها موجودة فعلا، لكن ليس في خرائط الإدريسي العالمية ما يشبه القارة إطلاقا ، كما أن خرائط “بيري رئيس” رُسمت بعد وصول كولومبوس بأكثر من ٢٠ سنة!
النقطة الأهم بعد أي قراءة هي المناقشة الموضوعية والتساؤل المنطقي. لنفترض أن كل ما ذكر في الكتاب كان صحيحا. فهل يعقل أن يكون هناك ١٠٠ مليون مسلم في قارة ولم يُذكروا إلا في بضع قصاصات مبهمة؟ هل قرر هؤلاء المسلمين مثلا نسيان ركن الحج وعدم محاولة الرجوع إطلاقا في زمن ازدهرت به حركة الملاحة؟ إذا كانوا قد عادوا فعلا، فلم لم يأتوا بمحاصيل الذرة والبطاطس وتركوها حكرا لأنفسهم؟ أي ضعف كان به ١٠٠ مليون مسلم لدرجة أنهم سحقوا تماما ومسحت آثارهم كليا من الوجود بينما بقيت آثار الحضارات الأخرى صامدة؟ هل يعقل ألا يكون للمسلمين أي قدرات عسكرية للرد على الأقل أو تدوين لأي معارك؟ كيف نجى السكان الأصليين من أمراض العالم القديم أم أن المسلمين هم من أبادوهم من غير قصد؟ لماذا لم تتطور سفن السكان الأصليين وبقي ت صغيرة الحجم نسبيا رغم زعم الكاتب بأن هناك تأثير جلي بحركة البناء؟ وإذا كانوا فعلا يكتبون بالعربية ووقعوا هدنة مع كولومبوس، فأين بقية تراثهم الإسلامي؟ لماذا لا نجد ولا حتى مخطوطة واحدة بالعربية عند السكان الأصليين؟ لماذا أبقيت أسماء بعض المدن إذا تم النجاح فعلا في طمس جميع الآثار الإسلامية؟
ما ذكر بالسابق يختصر خطوات نظريات المؤامرة: نحن الضحية، هم المتآمرون، أدلة هشة لادعاءات عظيمة، وربط للأحداث دون اتساق بينها. وما الهدف؟ إذا كان الأمر عقدة المركز الأول (والتي ما زلنا نعاني منها إلى اليوم)، فالأحرى به أن يذكر بأن البيروني كان “أول” من يتوقع وجود قارة أمريكا حسابيا من خلال أدوات بسيطة وسفن خشبية. عظمة عقلية البيروني الفذة هي الأمر الذي يستحق التأمل فعلا بدلا من نظريات المؤامرة.
فكر بهذا الفصل:”هل تعلم أن المسلمين هم أول من وصل إلى سطح القمر؟ وأن ثاني رائد فضاء بعد عباس بن فرناس هو شوكت البندقي؟ وأن الرحلات الأمريكية والسوفييتية لم تكن إلا لاحتلاله من المسلمين؟ نعم هذا صحيح، وقد تظن أني أستند إلى نظريات المؤامرة! لكن هناك أدلة كثيرة تثبت ذلك وقد سعى غزاة التاريخ الحاقدين إلى مسحها من الوجود. عندما نجح برنامج فضاء الدولة العثمانية في الوصول إلى القمر، عاش المسلمون هناك وبنوا مستعمراتهم، وأشهر مدينة هي “أبو الفداء” وقد سميت على العالم المسلم. لكن السوفييتي القذر خروتشوف علم ذلك وسعى بكل إجرام إلى الحصول على تكنولوجيا الصواريخ المخبأة في كازاخستان، ثم انطلق إلى القمر لمهاجمة المسلمين عنوة هناك، وقد عاشوا بأمن وسلام. الرئيس الأمريكي المسلم كينيدي كان يعلم بذلك. وهو مسلم بلا شك. هذا يبدو واضحا من شكله واسمه الذي يعود إلى ابن إسحاق الكندي، لكنه بعد أن قرر حماية إخوانه في القمر اغتالوه! وهذا هو الدليل القاطع على أنه أسلم فعلا وإلا فما السبب في إخفاء أدلة التحقيق كاملة إلى اليوم! أتى بعده القذر نكسون وأطلق الأسلحة النووية على مدينة أبو الفداء في جريمة أبشع من هيروشيما وناغازاكي. لم يتبق من هذه المدينة اليوم سوى فوهة ما زالت موجودة على سطح القمر، واسمها أبو الفداء باعتراف ناسا! هل تصدق! كان هناك مئات الآلاف من المسلمين على سطح القمر لكنهم أبيدوا بالكامل من قبل التعاون الأمريكي السوفييتي. هؤلاء الذين يدعون السلام نشروا سمومهم على القمر. ثم ادعوا أنهم فبركوا رحلات القمر وذلك ليمسحوا آثار جرائمهم على القمر ويمنعوا المسلمين من السفر إليه. أشفق حقا على الشباب المهزومين داخليا وانطلت عليهم الخديعة الكبرى ونسوا أمجاد عباس بن فرناس وشوكت البندقي!!”
كان هذا الفصل من وحي خيالي ويتناسق تماما مع محتوى”جهاد”، وقد يصدقه فعلا من يتغنى بقراءته للكتاب.من يكترث لصحة النقل إذا كان الأمر فيه تجييش للمشاعر؟ أليست الطريقة الأفضل لكسب الناس؟
ختاما، لا يوجد مثقف عاقل ينكر الإسهامات العظيمة للعلماء المسلمين في شتى مجالات الحياة، لكن التباكي على أمجاد مفبركة هو أمر يدعو للشفقة، وكأن إسهامات العلماء المسلمين تعاني من نقص أو شح يستوجب التزوير.هذا الكتاب لا يتجاوز كونه كارثة معرفية أنتجها شخص لا يفقه شيئا في مهارات البحث العلمي. ليته خصص فصلا للخوارزمي والثورة الحاسوبية، أو للحسن بن الهيثم والمنهج العلمي مثلا، فهذه الإنجازات حقيقية ملموسة. الأمثلة المذكورة عن هشاشة المحتوى لم تكن سوى غيض من فيض ، أما الكتاب فهو موسوعة من المغالطات. لا أشك أن مصير الكتاب سيكون شبيها بمصير كتب أنيس منصور عن الفضائيين والتي ازدهرت بعصر غابت به سهولة الوصول للمصادر (بينما غابت مهارات القراءة الصحيحة اليوم). إذا كان هذا الكتاب قد أثر بك، فإني أنصحك بإعادة قراءته بتجرد بعيدا عن العواطف وبحس نقدي تراجع فيه أمانة النقل وحجج الإثبات وصحة المصادر.إذا صدقت كل ما قرأته في كتاب، فاعلم أنك لم تقرأه.
١ يجب التنويه أني لم أدعي أن كولومبوس هو من اكتشف أمريكا لسببين: الأول أنه لا يمكن أصلا اكتشاف شيء يعرفه البشر، لذا فإن “اكتشاف” مفردة غير صالحة في هذا السياق. الثاني هو أن كولومبوس لم يكن أول من وصل إلى عالم الأمريكتين من عالم أوروبا وآسيا وأفريقيا. هناك شواهد تاريخية كثيرة تؤكد بأن الفايكينغ هم أول الواصلين لأطرافه الشمالية. لكن وصول كولومبوس كان الشرارة الأولى في أكبر عملية تبادل شهدها التاريخ. هذا لا يعني أن كولوبوس رجل عظيم، فوصول البحارة إلى العالم الآخر هو أمر حتمي بحكم التطور العلمي في شتى المجالات. كما أن كولومبوس لم يكن رجلا صالحا حتى، فالمؤرخون يؤكدون أنه مجرم وقح وسيء الطبع. كونه ساهم في العولمة ذلك لا يجعله بمرتبة أعظم من غيره ولا رجل مقدس.
عن مدونة مقالات فكريه لكاتبه فهد