الأدب والتاريخ

ارتحال المساريب .. للكاتب. سعيد صالح المرضي الغامدي.. الحنين المتعب لطرقات القرية الضيقة المكان ومفقودة الزمان. يا له من ارتحال.

المساريب… طرقات القرية، وشرايين حياتها، ومسارح أحداثها، ودواوين وقائعها، وصحائف ذكرياتها.
هي عروقها التي نبضت فيها كل أنشطتها؛ هي الملاعب والمسارب والممرات، وهي عصب القرية ودروب حياتها.
على ضفافها وقف الضيوف والمرحبون والمستقبلون والمعزون، وعلى شرفاتها دُوِّنت المآثر، ومنها عبر كل شيء: التاريخ، والبشر، والأنعام، وحِزَم الحنطة، وعُصم الحطب، وأخشاب المنازل، وأدوات الزراعة، وكل مقومات الحياة.كانوا يسلكونها مع السحر وعند الغروب، وفي كل وقتٍ وحين، فيها تبسط الذكريات أشرعتها لمن يسير فيها من أهلها الآن كالغريب الذي لا تنكره أحجارها ولا أشجارها، وتشفق عليه نسائم هوائها، وتحلّق به أجنحة الذكريات كما قال المتنبي:«على قلقٍ كأن الريح تحتي». أحوم في أجوائها كأني على جناح طائرة “درون” تحلّق بي في فضاءٍ ممتلئ بالذكريات التي دُوِّنت على بُسطٍ من ورق، أقراؤها وأشاهدها في كل منحنى ومنعطف من مساريب الطرفين تلك، وقد غدا كل فِرَاق بوابةً مفتَّحة المصاريع من كل حوشٍ وعلى كل مسراب.
ولولا الرحيل لما عادت تلك البوابات إلى الظهور ولما فُتِحت، بل بقيت موصدة في وجوه الزائرين والزمن، تُعاقر الصمت وتَجترّ الأحداث وتكتم الأسرار. كل بابٍ توشّح بسواد القطران الذي لم يكن يدري أنه سيفارقه، وقد كان يظن أنه سيقارع به جور الليالي ووقائع الأيام.
فتوشّحت الأبواب بحزنٍ أسود حين أضناها الفراق، وبدأت رحلة التخلي والاستسلام لوقع الشمس، ونقر المطر، ومطارق
البَرَد، ونحت الريح، وألم الوحدة.
لم تعد تناجيه وقع حوافر المواشي العابرة، ولا بقايا أصواف الأغنام التي تعلّقت بأهدابه، فجاءت نسائج العنكبوت تنوب عنها، وتستحلّ نقوشها وكبرياء ثباتها. حتى الصرير الذي كانوا يُسكِّتونه بالماء، تخلّى طوعًا عن شدوه وغنائه وتعابير حزنه، وأسرار بقائه، واعتزازه بوقوفه الصمودي في وجه العاديات.
كل بوابةٍ منها تُذكّرك أنك ذات يومٍ دخلت منها كما خرجت، لكن بوقعٍ مختلفٍ لكل دخولٍ ولكل خروج. تتنوع قسمات وجوه أهلها، وتتشابه سحناتهم، وتختلف أناتهم.
بعض الوجوه العابرة تحملها قاماتٌ مديدة، وبعضها مقاربٌ للأرض.
من بواباتها عبر الإنسان من زمنٍ إلى زمن، مثقلاً بالهموم، يكابد الزمن، ويصارع الشدائد، ينشد الوجود ويعشق الحياة. ونسائم الفجر تزيد قواه، تبحث عن صدرٍ يضمها، يعطيها شيئًا مما يحسه وما يلقاه.
متعبةٌ تبحث عن مرفأ وجدانٍ تستريح فيه على متكأٍ في إحدى زواياه، تقترب من بقايا شعلة نارٍ “قرض” متقدة، جمرها الأحمر ما زال وافر الدفء في ليلٍ شاتي، تكاد برودته تفتت عظام كفيه ومعصمه. نارٌ طالما أخرجتنا من سمر الخيال إلى حقيقةٍ لم تعد كما كانت مفتاحًا لفهم أساطير سكون الليل وظلامه، حتى ما عدنا ندري: أَنحن جزءٌ من ذلك الظلام، أم كله، أم لا شيء منه؟
وحين تتقرأ المساريب خطواتي، وتلمح نظراتي، تتحول إلى شريطٍ سينمائيٍّ يختزن كل أحداث القرية، وتنطبع على جبينه وقائع الأزمان.
تمتزج بأتربته وغباره وأحجاره، وتلتصق بجدرانه، لتفوح من جنباته روائح العابرين الزكية، وملامح وجوه السالكين، تدون حكاياتهم وما تبقى على صفحات تلك الوجوه من أحداثٍ وعِبَرٍ وتعابير وبريق أعين وامتزاج قطرات عرقٍ ودموعٍ وضحكات.
إنها مشاهد وحركة حياة؛ فذاك يحمل “مِذرى”، وتلك تحمل “قفة” امتلأت بالهموم والأحلام وأطايب منتجات الأرض، واختلطت حتى لم يبقَ لأشياء أخرى مكان على الظهور. ها أنا ذا أتبتّل في مساريب القرية، حيث كان وجهي يتعفر بترابها حين كنت فيها ألهو وأسابِق أقراني كهبوب الريح، حتى أحجارها كانت ترأف بي حين تجرحني أشواكها أو أتعثر بها، فأقلبها لأجد على وجهها التحتاني عشّ العنكبوت الأبيض، فأقتلعُه وأضمّد به جرحي. لا أنفك أتقرّأ ما علق بذاكرتي من وقائع دهورها، فامتزجت بها وامتزجت بي، وتنتابني حالة تجلٍّ روحانيٍّ تخلط ترابها بدمي، فتبدو لي كأجمل قصيدة حبٍّ ترنّحت كلماتها على حوافها والتصقت بجنباتها، فغدوت صداها وهواها وتردادها، وإيقاع موسيقاها وعذب كلماتها. حتى باتت وحشتي في تلك المساريب ليست فراغًا أو مساحاتٍ خاوية، بل امتلاءٌ وازدحام أطيافٍ وصورٍ وذكرياتٍ لأشخاصٍ أكاد ألمس أيديهم، وألثم جباههم، وأقبّل منهم القلوب قبل الأكف. لهم تتوحّش العيون، وتمتلئ بأنسهم الصدور، وتلهث خلفهم الأرواح وأعماق الصدور، وتمتزج بأنفاسهم أنفاسي. أكاد أُوحي وقع خطاهم، وينالني من بارد ماء أوانيهم ما يبلّ صبابة قلبي، ويروي عطشها، وينير سويداءها. كم مسرابٍ عبرته كي أصل إليك، فوجدته سرابًا يسكنني، ويقينًا يستوطنني، وغيهبًا يقطنني كالشمس التي خلف الغيوم.
كنتَ الحقيقة التي لا تحتاج إلى برهان، والفجر الذي تغنّي عصافيره فرحًا بمطلعك. ذات مرة، في مسرابٍ بين فناءين، كنتُ أحثّ الخطى، ولم تكن لي حرية الاختيار؛ فقد تكشّف لي في لحظةٍ عاجلةٍ بارقُ طيفٍ، شعرت كأني خيطٌ معلّقٌ بين بابين، ونسيت أني أحمل على كتفي “رُمّة” وفأسًا، وأن وجهتي نحو فضاءٍ ناءٍ، وأنّي مرسل، ومن أرسلني محتَبٌّ بفناءٍ مجهولٍ ينتظرني.
هناك غرق الخيال في سؤالٍ مشحونٍ بين نافذتين على الطريق تطلّان:
أين غدا قلبي من هذه المساريب؟
لقد ارتحلت المساريب، لكن قلبي بقي معلّقًا هناك، لم يرتحل بعد. كنتُ أحمل بين جوانحي رغبة العودة، والسير حيث كانوا يسيرون، والوقوف حيث كان الخيال يقف بين الوهم والحقيقة. لكنني كنتُ في موقفٍ لا أُحسد عليه من الضعف، فأُسارع إلى التراجع، ولا أفي لنفسي بوعدي بالعودة بحزمة حطبٍ من شجر العتم والعرعر، ولا بمحراثٍ أحمله على كتفي، ولا أتبع أبي وهو غادٍ إلى الحقل. الضعف يسلبني إرادتي، ولا يمنحني حرية اتخاذ قرارٍ محايد. حقًّا، أنا تائه، عاجزٌ أمام قائمة تفاصيل كنتُ أحاول مسحها من ذاكرتي. أحيانًا أنكر على نفسي العودة إلى ذكرياتٍ عفا عليها الزمن، وعاشت غربة المساريب الموحشة التي يلفّها الصمت، ويغزوها البِلى، ويقهرها العقوق والوحدة وحياة الصمت. أحجارها بدأت الوحشة تفتّتها. فما جدوى حياة المرء إذا فقد نفسه؟! وهو يعبر المسراب يتتبع صوتًا يتنقّل صداه بين نافذتين؛ كلّما وصل نافذةً وجد الصوت قد ذهب إلى الأخرى.
ليسـمع من يقول له:
ما الحياةُ برمّتها إلا طريقٌ يمضي؛ فلا الانتظار يقف، ولا الحياةُ تقرّ، ولا الصوتُ يستقرّ. دع همومك وارحل، فالمسراب بعيد، ومملوء بحكايات السنوات، ومترعٌ بقصص الأيام. ارحل حتى تلقى شيئًا منك في منعطفٍ أو “منسم” تُركت عليه ركوةُ ماءٍ باردٍ كُتب عليها:

«فيها جرعةٌ لك يا ابن السبيل».

توقفتُ عندها، وتساءلت في نفسي: من فاعلة الخير هذه؟ ولماذا تركت هنا ركوةً لا تملك غيرها؟ توقفت طويلًا، ووحيدًا عند “المنسم”، وما يزال السؤال قائمًا، وخلفه علامة استفهامٍ كبيرة. هناك تعلّمت أن الحياة كلها “منسم”، ولربما بدون ركوةٍ أو قِربة ماءٍ منسية. أفقتُ من غيبوبتي، ومضيت في حال سبيلي أعبر الطرقات، وأتنقّل من مسرابٍ إلى آخر، بحثًا عن وقع خطىً مرّت من هنا، وتركت خلفها بقية رائحة غِرازٍ من بركٍ وريحانٍ وكادي. المساريب لم تكن فارغة كما هي عليه الآن؛ كانت تعجّ بالحركة، وتتزاحم بها الخطى. خطى أقدامٍ رسمت على قارعة المسراب نقوشًا ورسومًا متنوّعة الإيقاع، مختلفة الأثر. أحدهم كان في عجلةٍ من أمره يسابق الريح، فكان وطؤه على الأرض خفيفًا، وأحيانًا لا تجد إلا بقايا آثار رؤوس أصابع قدميه. وآخر كادت أقدامه أن تغوص في أتربة المسراب، فقد كان ينوء عاتقه بحملٍ ثقيل. وتلك ليست إلا خطى ثورٍ يسوقه طفلٌ صغير، أو بقايا وقع أظلاف حمارٍ كانت تسوقه عجوزٌ متعبة. امتلأت المساريب ببقايا الخطى، فغدت كدفترٍ مدرسيٍّ خُطّت كلماته العشوائية بأقلامٍ غليظةٍ وأخرى دقيقة. وعندما ملأه الحزن، نظر إلى السماء، وتساءل: لماذا تبدو السماء قاتمة؟
لا غيوم، ولا سحب، ولا أمطار… لكنها قاتمة.
ليست السماء كذلك، بل نفسه القاتمة.
ما فعلته السماء إلا أنها كانت مرآته وذاته، فقط عكست ما في نفسه.
ولما أدرك ذلك، صرخ:
يا إلهي، هل تبدو نفسي بهذه القتامة؟! وهل باتت أمنية المتنبي أمنيتي؟ «ولو استطعت إذ اغتدت روادُهم
لمنعتُ كلَّ سحابةٍ أن تَقطُرا
فإذا السحابُ أخو غُرابِ فراقِهم
جعلَ الصياحَ بينهم أن يُمطِرا».
الارتحال آفة المساريب، رغم أنه يسري في الدماء منذ الأزل: «ربنا باعد بين أسفارنا». هو مشوبٌ بالخوف؛ رحيل النفس من البدن وسكنها فيه أشد قسوة، ووقعه مفعمٌ بالألم. ومع ذلك، فإن الرحيل من أعظم سنن الكون؛ حتى الغيوم تشقّ عنان السماء راحلةً من أفقٍ إلى آخر، والرياح، والسفن، والأنهار، ورعاة المواشي، وحتى مربّو النحل، واختراع الطيران وعبوره الأجواء من قارةٍ إلى أخرى…فهل يقف الارتحال عند مساريب البيوت العتيقة؟أم أنه تتمّةٌ لخطى الارتحال، يحمل في أحشائه ألم الاغتراب ومكابدة الأسفار ؟ومع ذلك، لم يقف الحنين إلى مرابع الصبا حائلًا دون الارتحال. فما الوقوف على الأطلال واستنطاقها ومناجاتها إلا وجهٌ من وجوه الصراع بين البقاء والارتحال، بين الاغتراب والاستقرار.
ولولا السفر، لما كان الحنين.

أيها المسراب، لِمَ تحوّلتَ إلى مرآةٍ أُشاهد عليها وجوه الراحلين حين لم أعد أُشاهدهم في منحنياتك، ولم أعد ألقاهم على قوارعك، أو أُجالسهم على جدران حجائرك، وتحت ظلال أشجار طلحك أو لوزك؟ كم هو مؤلمٌ هذا الخواء الذي تلوذ بصمته واكتئابه منحنياتك، مؤلمٌ يا فراق، حين ألمس بقاياك تحتشد على جنبات المساريب، تندب بقايا ضجيج أصواتٍ كانت ترنّ وتعول لتتنفّس الحياة فيك، فيغتالها البَين والفقد والعدم والوحشة القاتلة. جئتُ أبحث في المساريب عن بقايا حياةٍ كنت أعرفها، فلم يتبقَّ منها سوى ظلال أطلال. أيها الصوت الذي غادر المساريب دون رجعة، أتعرف أنك إن عدت — ولن تعود — لأنك صوت الوجع الدفين تحت أضلاعنا، الذي ما يزال يصرخ دون أن يسمعه أحد، لأنه بلا صوت، ولأنه مجرد هتافٍ داخليٍّ نحسه ولا نسمعه. تلك المساريب لم يكن لها اتصالٌ بالمدن النائية، ولا تقود أحدًا إليها.
أقصى ما كانت تصل إليه القرى الكبيرة المجاورة ذات الأسواق أو البنادر، حيث منها يكتالون ميرتهم، ويأخذون علوم القرى النائية، ويلتقون فيها بأقرانهم وأصدقائهم ومن يبادلونهم مودّتهم.
هناك تُجبى إلى الأسواق كل ما يحتاجه أهل القرى لحياتهم اليومية من ضرورات.

أيّها المساريب… هل ستعود الحياة إليك؟

أحبك يا شجر اللوز،
حين تجاور مسرابنا،
تمدّ إليه الغصون،
وتُلقي إليه الثمر،
تمدّ المساريب بالفيء وظلٍّ ظليل. والغانيات على جانبيك يثرثرن وقت السحر،
ويُطلقن عند اقتراب المساء أغانِي السمر،

وضحكٌ بريءٌ كلون الشفق،
يسابقن ريح المساء عائدات،
وقد مُلئت بالمياه القِرَب،
وأعينهنّ من البشر والضحكات. كل شيءٍ هنا يرحل…
الوجوه التي ألفناها،
والأصوات التي اعتدنا سماعها.
نحن نخشى النهايات، نكرهها ولا نحبها. والحياة لا تتوقف،
ولا تهتم ببدايةٍ ولا بنهاية.
المبتدئون كثيرون، والمنتهون كثيرون،
والحياة لا تتوقف،
أشبه بميناءٍ جويٍّ لا وظيفة له إلا الارتحال والإياب. وما بين بدايةٍ ونهايةٍ،
الكلّ مجرّد لحظة،
مجرّد نقطة ضوءٍ ظهرت ثم توارت،
مجرّد نفحةِ عطرٍ ما لبثت أن تبخّرت،
مجرّد غيمةِ صيفٍ عبرت ولم تترك أثرًا،
إلا ألمًا حلّ بأعلى شاهقٍ من فؤاده.

لقد سلكتُ هذا المسراب حتى كدت أمله، وهو متمسكٌ بي لم يملّني، لأنه يعرفني ولا ينكرني.
خطايَ رُسمت على قارعته، ووجهي مرسومٌ على جنباته.
كنتُ أظنه — وما زلت — مسرابي، ومغداي، ومآلي، وأوبتي. حفظ حتى دموعي التي سكبتها لفراق من عبروا هذا المسراب لسنوات، واحتفظ بها.
وصوت ضحكاتي تردد صداها هنا، لكن صوتي غدا ترانيم وأغنيات توشّحها الحزن،
وروح غمامةٍ برذاذها تُنعش حنايا الروح، وتستمطر بقايا أيامٍ خلت،
شفّها الوجد، وأثقلتها حمائل الزمان، ورجع ذكرياتٍ لم تمحُها السنين الطوال. في آخر المسراب، مسجدٌ حوى ذات يومٍ مهجًا تعلّقت بخالقها، وسبّحت بحمده، وأسلمت له الأرواح مطمئنةً إلى باريها.
كانت ترفع الأكف بوجلٍ وتُقى، تُؤمّل رحمته وتتقي عذابه، وتعيش في رحابه هنيهاتٍ من تبتّلٍ وتنسّك، حين كانت تأوي إليه يلفّها الخشوع، وأمنيات الواثق، واستجداء العطف والمغفرة.

“هبيني حُزنًا لم يمرّ بمهجةٍ
فما كنتُ أرضى منك حزنًا مُجرَّبا.” خمسون عامًا وقد تزيد، وأنا أعبر هذا المسراب.
عبرته منفردًا، وعبرته برفقة غالين — أقارب ومعارف وأصحاب.
أعبره الآن عبور المسافر، عبور الغريب، عبور الحزين الذي لم يعد يجد في المسراب من عابرٍ غير الذكريات
العابرة. لقد ارتحلوا جميعًا دون رجعة،
إلا بقايا حنينٍ وشيءٍ من لحظاتٍ مضت وتاهت في غياهب الزمن الذي لا يرحم ولا يعود. “خمسون والمطر الشهيُّ مؤجَّلٌ
لسنابلَ عقمت عن الإنجاب.” خمسون… والعابرون كغيمٍ عابرٍ بلا ماء، غائبون حتى دون سراب.
وأنا هنا أعبر المسراب وحدي، أقرأ صفحاتٍ من الذكريات، محَت الأنواءُ بعض حبرها، وبعض أسطرها، وكثيرًا من حروفها. وعبثًا أحاول لمّ شتاتها، عبثًا أحاول الإنصات لصدى صوتٍ قادمٍ من أحد منعطفاتها، كلّها تتأبّى، وكلّها تستعصي، وكلّها تتمرّد، وأنا أقف في منتصف المسراب، علّي أسمع صوتَ مصراعٍ يُفتح، أو وقعَ خطىً قادمة. أنصتُ… لعلّ أحدًا يدعوني إلى كوبِ قهوةٍ صالبيّةٍ جُلبت من سوق الخميس من بائعٍ شدويّ،
أو لعلي أرى واحدةً كانت تستقي الماء وتحمله على رأسها في “حلّةٍ” بيضاء،
أو لعلي أرى حمارةَ عمي البيضاء وقد حُمِّلت بسنابل القمح وأُرسلت إلى البيت وحيدة، لأنها تعرف طريق البيت جيدًا. حتى الذاهبون إلى المسجد، حتى عشّاق الصلاة أولئك، لم تعد المساريب تراهم، وافتقدتهم ساحة المسجد ومحرابه. لم يعد يتحاور أحدٌ في ساحته، ولا يترقب النجوم وهي تصرخ:

“يقرّ لعيني أن سهيل بداليا.”

لم يعد للثريا ومواقيتها ذكرٌ أو خبرٌ أو حوارٌ أو استدلال.
أخشاب سقفه تهاوت، وسقط مرزحه حزنًا عليهم،
وبابه انتحب واشتكى، حتى تخلّعت وُلاحه، وانمحى لونه وقطرانه، وغدت بقاياه شاحبةً تتساقط أجزاؤها، وتتكسر عتبته وجبهته حزنًا وألمًا. شاهدت المسجد المحزون وقد حلّ به البِلى، وخيّم الحزن على جنباته، واختفت منه نُسخٌ قرآنيةٌ عتيقة. أما أحواش القرية التي تنتهي إليها المساريب، فقد امتلأت بأشجار العُثرب والطلح المتوحشة،
وكأنها لم تكن يومًا تموج بالحركة والنشاط والمشاهد البديعة، وهي الآن تئنّ — موجعة القلب — مثقلةٌ بنباتاتٍ توحّشت وأخفت حتى الشمس عنها، ولم تعد ترى أحدًا.

“نبدي لها غير ما نخفي ولوعتنا
تكاد من صمتها للشوق تعتذر.”

عفوًا أيها المساريب، “فبعض البوح ضقتُ به فسال فوق فمي حرّان يستعر.” أيها المسراب،
لِمَ أعود إليك لأشقى؟
أمن أجل عهدٍ سيبقى؟
أم لأجترّ ذكرى؟ لقد جئتك طوعًا، وجئتك كرهًا،
وجئتك مهلًا، وجئتك أسعى،
وجئتك لحبٍّ دفينٍ، وجئتك معنى. فما وطئت قدمي فيك جرحًا،
وما ذرفت عيني الدمع إلا لتبقى. وتمضي السنون، وعهدك عهدٌ،
وأنت كما أنت — مسرابُ رعدٍ وبرقٍ،
أحاديثُ ناسِك همسًا وجهْرًا،
ووقعُ خطاهم يؤزّك أزًّا،
تحثّك بل تستفزّك علّك تبقى. أعود لأمنح أمسك شوقًا ووجدًا، “فليتك تمنح للقلب خفقًا.”

ابو ناصر الغامدي

خبرة 22 عاما في التحرير و الصياغة الشرعية و النظامية لجميع الدعاوي

مقالات ذات صلة

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest

0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x