الثقافة الشعبية ..فن العتابا والزجل.فيديوهات
العتابا أشهر الألحان التراثية في الأغنية الشعبية
أشكال الأغنية الشعبية في سوريا /3/منوعاتكتب وملفاتبتاريخ: أبريل 28, 2019
عازف الربابة -مصدر الصورة: الجزيرة نت 0المشاركةالأيام السورية؛ سلام محمد
تعتبر “العتابا” من أشهر الألحان التراثية في الأغنية الشعبية، أما ما تعنيه الكلمة فقد تعددت الآراء حول ذلك من قبل الباحثين، فثمة أساطير متعددة تنسج، وروايات كثيرة تُحكى، كلّها تدور في فلك البحث بدءاً من أصل التسمية، وانتهاء بقصص نشأتها؛ فلكل منطقة مخزون شعبي يروي قصة أقرب إلى الخيال، فمن تلك الحكايات الأسطورية، ثمة حكاية تقول: إنه كان لفلاحٍ شاب في جبال الساحل السوري؛ زوجةً جميلة اسمها عتابا، بهر جمالها الإقطاعي، الذي أخذها غصباً إلى قصره، فما كان من الفلاح إلا أن هجر الجبل، وهام على وجهه في القرى والبلدات، وفي غمرة حزنه الشديد أنشد العتابا الأولى:
عتابا بين برمي ولفتي…
عتابا ليش لغيري ولّفتي…
أنا ما روح للقاضي ولا أفتي…
عتابا بالتلات مطلقا
ويقول أخرون؛ إنّ أول بيت قاله هو:
عتاب يا خلق حلوا وجيها
تِعَنّى اليوم ياخذها وجيها
وكل ماكنت أناجيها وجيها
حنّ الورد عالوجنا وطاب
ولكننا نجد أن أقرب الأقوال إلى المنطق، أنها جاءت من العتاب والمعاتبة، وهذا ما تؤكده لنا كلمات أبياتها، فشاعر العتابا يعاتب حبيبه لما يبديه من صدٍّ وهجران، ويلوم صديقه على جفائه.
ويتركب بيت العتابا من بيتين، ولكل بيت شطرين، وتكون الاشطر الثلاثة الأولى على قافية مجنّسة؛ أي يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى، وينتهي الشطر الرابع بالباء الساكنة المسبوقة بالألف، أو بالفتحة مثال:
هلي ما لبسوا خادم سملهم
وبكبود العدا بايت سم لهم
وان كان أهلك نجم أهلي سما لهم
كتير من النجم علّى وغاب
أو
متى يا دنيا هالقلب تريحين
ترا الصخر لو يسمع نواحي ترى يحن
أمانة يا بنت هالقلب تريحين
ترا انكسر واضناه التعب
وهناك صوتان يبدأ وينتهي بهما بيت العتابا وهما:
1-الأوف: وهي مدة صوتية طويلة يؤديها المغني تبعاً لقوة ودرجة وعلو صوته وهي أشبه بالتحذير والطلب والانتباه من الجمهور لسماع بيت العتابا، ويقال أن كلمة “أوف” أصلها من الضجر والملل لأن الشاعر ـ كما يقال ـ الذي ابتدع وألّف العتابا كان يبدأ بأوف تعبيراً عن الألم والملل ويعاتب بعد ذلك، وتختلف قوة الأوف ومداه من مكان إلى آخر.
2-العنة: بعد الانتهاء من الأوف يبدأ الزجال بقول بيت العتابا، ويتوقف عند نهايته (الباء الساكنة) توقفا قصيراً، ثم يبدأ بالعنة وهي أقل حدة من الأوف، والعنة تمهد إلى أن ينهي الزجال دوره ويمهد للشاعر أو الزجال الآخر للبدء بالأوف والعتابا وهكذا، يستمر التبادل ما بينهما.
ويمكن الاستغناء عن “الأوف” في بداية بيت العتابا، وعن “العنة” في نهاية بيت العتابا، إذا ما كان هناك “محاورة” بين زجالين، وتسمى هنا العتابا بـ “عتابا فشل” أي بدون أوف أو عنة. ويقصد من عدم قول الأوف أو العنة في هذا النوع من العتابا هو اختصار الوقت بمعنى أن الزجال يسرع في قول بيت العتابا في أقل وقت (بدون أوف أو عنة) حتى لا يعطي مجالات كافياً من التفكير لزميله للرد عليه، وبذلك يتفوق عليه، وتبدو قوة الارتجال في هذا النوع أكثر وضوحاً.
وهذا اللون من الغناء (العتابا)، هو لون بدوي محض، فمن المعتقد أن أول من نظم العتابا القبائل العربية التي سكنت أرض العراق، ومنها انتقلت إلى بلاد الشام، أو أنها نشأت أواخر العهد العباسي، بعدما فسد اللسان العربي وكثر اللحن، وقد غناها البدو الرحل مصحوبة بصوت الربابة الحزين الذي يثير الأشجان.
وكذلك أدَّاها الإنسان الفراتي عندما بدأ يستقر على ضفاف الأنهار تاركاً حياة التنقل والترحال معتمداً بمعيشته على الزراعة، فهو بالتالي حصيلة لمخزون ذلك الإنسان من أغاني الصحراء والأغاني الريفية التي بدأ يتقنها بعد استقراره بجانب الأنهار، وهي تغنى مع الربابة حسبما كان شائعاً، ويجوز غناؤها دون الربابة أي إنها تقرأ كالشعر، ولاحقاً أصبح بالإمكان غناؤها مع الفرقة الموسيقية، وتتميز بأنها لا تغنى بشكل جماعي، بل بشكل إفرادي بحيث تنبع من قلب شاعرها ومغنيها، وتتم مرافقتها بالغناء بألوان أخرى مثل “النايل، والسويحلي”، حتى يرتاح المغني من أدائها، ويضفي نوعا من البهجة والسرور على جلسة غناء العتابا، ومن الممكن مرافقتها أيضاً ببعض أنواع الدبكات مثل دبكة “الميمر” و”الهلابا”.
وهذه بعض من نصوصها:
يـَهَلْ دخانـكم عالج بلا نار
وهـواكم يلسع العاشق بلا نار
أنـا الـورِّيت بثيابي بـلا نار
انسلب عظمي من حَدْرِ الثياب
أريد أبجي على روحي وناحي
بعـيني ضاكـت الدنيا وناحي
أخوي الما نفعني بيوم وأنا حي
شلِّي بيه يـوم ردَّات الـتراب
ويتلوّن أحياناً بيت العتابا بالبديع والبيان، ويحتاج إلى صوت قوي وحنجرة رخيمة تصدح بالمفردات؛ مصبغة عليها اللفظ الصحيح، والقدرة على تلوين الصوت ونطق مخارج الحروف بشكل جيد، والوقوف أثناء إنشاد البيت والعودة إليه بالقوة ذاتها، وإعطاء اللفظة حقها في اللحن، حسب الموقع الذي وجدت فيه، بينما يكون الرجل ينشد بيته.
ولا تنظم العتابا بشكل عشوائي، وإنما لها قواعد عامة تسير وفقها مثل الشعر العربي، فهي تنظم على البحر الوافر، مثل نماذج غنائية شعبية أخرى كالسكابا، لكنها ليست بالتزمت ذاته لأن الكلام المحكي لا يخضع لهذه الضوابط بشكل دقيق، وإن كان ذلك يحدث بلا إحساس منا؛ لأن اللغة لا تنسلخ عن جذورها فهي ترتوي من البئر نفسها، فالكثير من الباحثين والدارسين رأى أنها درجة ثانية لأنها لا تنظم باللغة العربية الفصحى، لكنها تحمل تراكيب شعرية عميقة وصوراً معبرة تنقل الواقع المعاش والحالة الفنية؛ راسمة صورة أدبية للمعاني والأحاسيس والأخيلة التي يسعى المُعتِّب إلى إيصالها، معتمداً الإثارة والتشويق والتأمل العميق، فكما كان الشعر العربي خزانة العرب قديماً وسجلهم الذي حفظ تراثهم، حملت العتابا اللواء ورسمت ملامح مجتمعات متعددة.
ربما اتخذت العتابا في البداية من أجل تسلية النفس والترويح عنها، لكن مواضيعها الآن باتت متنوعة، ومحاورها مختلفة، تعكس المزاج العام للناس وهمومهم الحياتية، وأصبحت تتطرق إلى مواضيع سياسية ودينية وغزلية، لكن الأثر البارز هو للبيئة والطبيعة الجغرافية، فمثلاً في عتابا ” عبد الله الفاضل ” تحضر البادية بعوالمها ومدلولاتها يقول مخاطبا كلبه “شير”:
هلي شالو على مكحول يا شير
وخلو لك عظام الحيل يا شير
يلو تبكي وتهل الدمع يا شير
هلي ما عاد لي منهم رجا
أما في الساحل السوري فتتركز الأبيات حول الجبل أو البحر، وما لهما من انعكاسات نفسية ووجدانية في نفوس صداحي العتابا الذين تنطق حناجرهم بما يعبر عن مكنوناتهم؛ فالبيت التالي يعطي صورة الفتاة الريفية التي تصنع خبزها على تنور قديم، يتغزل بها المعتب لأنه مشهد مألوف، ويمسه روحياً:
متى يا بنت ع المتلي ترقين
وأمانة بالعشق شوية ترقين
وعلى التنور يوم شفتك ترقين
حملت للتنور ع كتافي حطب
وقديماً كان الشاعر الفحل يرتجل قصيدته بين يدي ممدوحه أو لأي غرض آخر، وصاحب العتابا الفحل، هو الذي يستطيع أن يرتجل أشعاراً حول موضوع محدد يسأله عنه طرف آخر، يكون محاوره ومبارزه في سباق بينهما قائم على المحاورة أو الجدل، وكل منهما يتفاخر على خصمه بأبيات تبرز مقدراته وتفوقه، ويريد الأسبقية وانتقاء موضوع يُعجز به الآخر، وقد يتبارزان بقافية واحدة وتسمى العتابا المقيدة أو بلا تحديدها تسمى العتابا الحرة، وقد تكون الموضوعات معتمدة على السلب والإيجاب؛ أي الشيء وضده كالسهل والجبل، والسجن والحرية، والسمراء والشقراء، والفقر والغنى، أو تترك للمتحاورين حرية الاختيار، وندماء العتابا لهم دور في إذكائها وتحفيز المعتب كي يثيروا حماسته ليجود بأفضل أبياته.
وتتعدد أنواع العتابا في سورية فمنها: الشرقية في الجزيرة والفرات والبادية العراقية، والجبورية في منطقة الخابور وبعض مناطق الجزيرة ترد فيها ألفاظ السقي والري، والفاضلية نسبة إلى عبد الله الفاضل من بدو الحسنة، والسلمونية نسبة إلى مدينة سلمية.
والعتابا لم تدون، فليست لها أصول محددة، ولا يعرف قائلها، لأنها تنظم لحظياً من قبل أشخاص مجهولين، وانتقلت شفاهاً وتواتراً كالشعر العربي، ولا يوجد جمع ولا توثيق لها؛ لذلك تبقى تواجه خطر الاندثار.
عن موقع الأيام-سوريا