الامام.محمد بن جرير الطبري: قصة إمام قتله التعصب. يرحمه الله.
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري،[3] (224 هـ – 310 هـ – 839 – 923م)، مفسّرومؤرّخ وفقيه، ولُقِّبَ بإمام المفسرين، ولد بآمُل عاصمة إقليم طبرستان،[4] ارتحل إلى الريوبغدادوالكوفةوالبصرة،[5] وذهب إلى مصر فسار إلى الفسطاط في سنة253 هـ وأخد على علمائها علوم مالكوالشافعيوابن وهب،[6] ورجع واستوطن بغداد، قال الخطيب البغدادي:[7] «كان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابةوالتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفُا بأيام الناس وأخبارهم»، عُرِضَ عليه القضاء فامتنع، والمظالم فأبى،[8] له العديد من التصانيف، يقول ياقوت الحموي:[9] «وجدنا في ميراثه من كتبه أكثر من ثمانين جزءًا بخطه الدقيق»، ومنها: اختلاف علماء الأمصار، وهو أول كتاب ألفهالطبري، وكان يقول عنه:[10] «لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف»، وألف جامع البيان في تأويل القرآن، المعروف بتفسير الطبري وتاريخ الأمم والملوك، المعروف بتاريخ الطبريوتهذيب الآثار، وذيل المذيل، ولطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام، وكتاب القراءات،[11] وصريح السنة، والتبصير في معالم الدين، وتوفي في شهر شوال سنة 310 هـ، ودفن ببغداد.
نسبه ومولده ونشأته[عدل]
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري ، وُلِد في طبَرِستان في مدينة آمل ، وهناك مدينتين تحمل أسم آمل وهناك خلاف حول أي المدينتين التي ينتمي لها الطبري ويرجح بعض الباحثين ان المقصودة التي في تركمانستان[15] [16]،[17] عام 224 هـ، ونسبه بعض العلماء الى قبيلة الأزد اليمنية والتي أستوطن قسم منها في المشرق الأسلامي وهو الأرجح ، وكان ينأى بنفسه عن الخوض في الأنساب[18][19][20][21][22] [23][24]،وزعم المستشرق بروكلمان أنه من عنصر أعجمي [25]، نشأ الطبري بآمل، وتربى في أحضان والده وغمره برعايته، وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم فتولى العناية به ووجَّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم، كما هي عادة المسلمين في مناهج التربية الإسلامية، وخاصةً أن والده رأى رؤيا تفاءل بها خيرًا عند تأويلها. فقد رأى أبوه رؤيا في منامه أن ابنه واقف بين يدي الرسول ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار، وهو يرمي بين يدي رسول الله، وقصَّ الأب على مُعَبِّرٍ رؤياه فقال له: “إن ابنك إن كبر نصح في دينه، وذبَّ عن شريعة ربه”. ويظهر أن الوالد أخبر ولده بهذه الرؤيا وقصها عليه عدة مرات؛ فكانت حافزًا له على طلب العلم والجد والاجتهاد فيه والاستزادة من معينه، والانكباب على تحصيله ثم العمل به، والتأليف فيه؛ ليدافع عن الحق والدين.[26] وظهرت على الطبري في طفولته سمات النبوغ الفكري، وبدت عليه مخايل التفتح الحاد والذكاء الخارق والعقل المتقد، والملكات الممتازة، وأدرك والده ذلك فعمل على تنميتها وحرص على الإفادة والاستفادة منها؛ فوجَّهه إلى العلماء ومعاهد الدراسة، وساعده على استغلال كل هذه الطاقات دون أن يشغله بشيء من شؤون الحياة ومطالبها، وخصص له المال للإنفاق على العلم والتعلم، وسرعان ما حقق الطبري أحلام والده، وزاد له في آماله وطموحه. وقد حرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدمه والده إلى علماء آمل، وشاهدته دروب المدينة ذاهبًا آيبًا يتأبط دواته وقرطاسه. وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد، حتى قال عن نفسه: “حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة”.[27]
النبوغ والذكاء[عدل]
كان الطبري موهوب الغرائز، وقد كان ذو ذكاء خارق، وعقل متقد، وذهن حاد، وحافظة نادرة، وهذا ما لاحظه فيه والده، فحرص على توجيهه إلى طلب العلم وهو صبي صغير، وخصص له موارد أرضه لينفقها على دراسته وسفره وتفرغه للعلم. ومما يدل على هذا الذكاء أنه رحمه الله حفظ القرآن الكريم وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس وهو ابن ثماني سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين.[28]
حفظ الطبري[عدل]
نسخة تاريخ الطبري المترجمة إلى الفارسية بواسطة البلعمي التي تعود للقرن الثامن الهجري.
كان الطبري يتمتع بحافظة نادرة، ويجمع عدة علوم، ويحفظ موضوعاتها وأدلتها وشواهدها، وإن كُتُبه التي وصلتنا لأكبر دليل على ذلك، حتى قال عنه أبو الحسن سري بن المغلس: “والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره.[29]
ورع الطبري وزهده[عدل]
كان الطبري على جانبٍ كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام، والبُعد عن مواطن الشُّبَه، واجتناب محارم الله تعالى، والخوف منه، والاقتصار في المعيشة على ما يَرِدُهُ من ريع أرضه وبستانه الذي خلَّفه له والده.[30] قال ابن كثير: “وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم،… وكان من كبار الصالحين”.[31] وكان الطبري زاهدًا في الدنيا، غير مكترث بمتاعها ومفاتنها، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وبما يقوم به أوده، ويمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء.[32]
عفة الطبري وإباؤه[عدل]
كان الطبري عفيف اللسان، يحفظه عن كل إيذاء، وكان متوقفًا عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، ولما كان يناظر مرة داود بن علي الظاهري في مسألة، فوقف الكلام على داود، فشق ذلك على أصحابه، فقام رجل منهم، وتكلم بكلمة مَضَّة وموجعة لأبي جعفر، فأعرض عنه، ولم يرد عليه، وترفَّع عن جوابه، وقام من المجلس، وصنَّف كتابًا في هذه المسألة والمناظرة.[33] وكان الطبري عفيف النفس أكثر من ذلك، فهو مع زهده لا يسأل أحدًا، مهما ضاقت به النوائب، ويعفُّ عن أموال الناس، ويترفع عن العطايا.[34]
تواضع الطبري وعفوه[عدل]
كان الطبري شديد التواضع لأصحابه وزواره وطلابه، دون أن يتكبر بمكانته، أو يتعالى بعلمه، أو يتعاظم على غيره، فكان يُدعى إلى الدعوة فيمضي إليها، ويُسأل في الوليمة فيجيب إليها.[35] وكان لا يحمل الحقد والضغينة لأحد، وله نفس راضية، يتجاوز عمن أخطأ في حقه، ويعفو عمن أساء إليه.[36]وكان محمد بن داود الظاهري قد اتهم الطبري بالأباطيل، وشنَّع عليه، وأخذ بالرد عليه؛ لأن الطبري ناظر والده، وفنَّد حججه، وردَّ آراءه، فلما التقى الطبري مع محمد بن داود تجاوز عن كل ذلك، وأثنى على علم أبيه، حتى وقف الولد عن تجاوز الحد، وإشاعة التهم على الطبري.[37] ومع كل هذا التواضع، وسماحة النفس، والعفو والصفح، كان الطبري لا يسكت على باطل، ولا يمالئ في حق، ولا يساوم في عقيدة أو مبدأ؛ فكان يقول الحق، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ثابت الجنان، شجاع القلب، جريئًا في إعلان الصواب مهما لحق به من أذى الجهال، ومضايقة الحساد، وتخرصات الحاقدين.[38]
محنته[عدل]
النسخة الأولى المترجمة إلى اللغة الفارسية لكتاب تفسير الطبري وتعود للعام 606 هجري.
تعرض الطبري لمحنة شديدة في أواخر حياته بسبب التعصب المذهبي، فلقد وقعت ضغائن ومشاحنات بين ابن جرير الطبري ورأس الحنابلة في بغداد أبي بكر بن داود أفضت إلى اضطهاد الحنابلة لابن جرير ، وتعصب العوامّ على ابن جرير ورموه بالتشيّع وغالوا في ذلك. حتى منعوا الناس من الاجتماع به، وظل ابن جرير محاصرًا في بيته حتى تُوفّي.
تلامذته[عدل]
كان الطبري أحد أبرز العلّامات في عصره، وقد حضر مجالسه العديد من أبرز علماء عصره وتتلمذوا على يده، ومن هؤلاء أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن عبد الله الشافعي، ومخلد بن جعفر، وأحمد بن عبد الله بن الحسين الجُبْني الكبائي، وأحمد بن موسى بن العباس التميمي، وعبد الله بن أحمد الفرغاني، وعبد الواحد بن عمر بن محمد أبو طاهر البغدادي البزاز، ومحمد بن أحمد بن عمر أبو بكر الضرير الرملي، ومحمد بن محمد بن فيروز، وتعلم على يده كثير غيرهم.[39]
- تفسير الطبري—المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن.
- تاريخ الطبري (تأريخ الأمم والملوك).
- التبصير في معالم الدين.
- كتاب آداب النفس الجيدة والأخلاق النفيسة.
- اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام.
- صريح السنة (يوضح فيه مذهبه وعقيدته).
- الفصل بين القراءات.
- آداب القضاة.
- آداب النفوس.
- آداب المناسك.
- تهذيب الآثار.
- فضائل أبي بكر وعمر ما.
- ذيل المذيل.
من شعره[عدل]
إذا أعسـرت لم يعلم رفيــقي | وأستغني فيستغني صديـــقي | |
حيائي حافظ لي ماء وجهــي | ورفقي في مطالبتي رفيـــقي | |
ولو أني سمحت ببذل وجهــي | لكنت إلى الغنى سهـل الطريق |
ثناء العلماء عليه[عدل]
- قال عنه الإمام النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل الطبري.[40]
- قال عنه ياقوت الحموي: “أبو جعفر الطبري المحدِّث، الفقيه، المقرئ، المؤرِّخ، المعروف، المشهور.[41]
- قال عنه الخطيب البغدادي: “كان أحد أئمة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات كلها، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها: صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفًا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم قل أن ترى العيون مثله…، عارفًا بأيام الناس وأخبارهم.[42][43]
- قال عنه أحمد ابن خلكان:العلم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقا حافظا رأسا في التفسير إماما في الفقه والإجماع والاختلاف علامة في التاريخ وأيام الناس عارفا بالقراءات وباللغة وغير ذلك.[44]
- قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق وكان مجتهدًا في أحكام الدين لا يقلد أحدًا بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه وكان أسمر، أعين، نحيف الجسم، فصيحًا.[45]
- قال الذهبي: “الإمام الجليل، المفسر أبو جعفر، صاحب التصانيف الباهرة… من كبار أئمة الإسلام المعتمدين. كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، عَلاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك. وفي موضع اخر قال: الطبري له كتاب التفسير، لم يصنف أحد مثله”.[46]
- قال عنه القفطي: “”العالم الكامل، الفقيه، المقرئ، النحوي، اللغوي، الحافظ، الإخباري، جامع العلوم، لم يُرَ في فنونه مثله، وصنف التصانيف الكبار،[47] منها تفسير القرآن الذي لم يُرَ أكبر منه، ولا أكثر فوائد”.[47]
- قال ابن خزيمة: “ما أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير”.[48][49]
- قال عنه ابن تغري بردي: “وهو أحد أئمة العلم، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، وكان متفننًا في علوم كثيرة، وكان واحد عصره”.[50]
- قال ابن تيمية: وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري, فإنه يذكر مقالات السلف, بالأسانيد الثابتة, وليس فيه بدعة, ولا ينقل عن المتهمين.[51]
- قال السيوطي: ” الإمام أبو جعفر، رأس المفسرين على الإطلاق، أحد الائمة، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عالماً بأحوال الصحابة والتابعين، بصيراً بأيام الناس وأخبارهم.[52] وفي كتاب اخر قال: الطبري وكتابه أجلُّ التفاسير وأعظمها… فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض، والإعراب والاستنباط، فهو يفوقها بذلك”.[53][54]
توفي الطبري وقت المغرب عشية يوم الأحد 26 من شهر شوال سنة 310 هـ، الموافقة لسنة 923م كما نصّت المصادر التاريخيّة[55] وعاش الطبري راهبًا في محراب العلم والعمل حتى وفاته.
قال ابن كثير: توفي الطبري عن عمر ناهز الثمانين بخمس سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره لان بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالالحاد، وحاشاه من ذلك كله. بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الظاهري، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض.[56] قال الخطيب البغدادي وابن عساكر:”اجتمع في جنازته من لا يحصيهم عددًا إلا الله، وصُلِّي على قبره عدة شهور ليلاً ونهارًا،[57] ودُفِن في أضحى النهار من يوم الاثنين غد ذلك اليوم في داره الكائنة برحبة يعقوب ببغداد.[58] ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب”.[59]
وعندما سمع أبو بكر بن دريد بوفاته رثاه بقصيدة أولها:
لن تستطيع لأمر الله تعقيبا | فاستنجد الصبر أو فاتبع الخوبا |
وكذلك عندما سمع أبو سعيد ابن الأعرابي بوفاته رثاه بأبيات منها:
قام ناعي العلوم اجمع لما | قام ناعي محمد بن جرير |
وحاليا (رحبة يعقوب) التي دفن فيها هي حديقة تسمى (حديقة الرحبي) بعد أن تم هدم المساكن القديمة حولها وتوسعتها، وتم تحديد قبر الإمام الطبري، والقبر ظاهر للعيان موجود في الحديقة في شارع عشرين في الأعظمية في بغداد.
قصة أبى غياث المكي وزوجته لبابة من علامات الصدق الخوف من الله والزهد في الحياة ، فالصادق في يقينه يخاف أن يأكل من حرام، ويتحمل الفقر والمشقة طمعا في دار السلام ، وإن أتى ذنبا فإنه لا ينام ، حتى يعود إلى ربه ، ويتبرأ من ذنبه . قا ل ابن جرير الطبرى : كنت في مكة في موسم الحج فرأيت رجلا من خرسان ينادي ويقول : يا معشر الحجاج ، يا أهل مكة من الحاضر والبادي ، فقدت كيسا فيه ألف دينار ، فمن رده إلى جزاه الله خيرا وأعتقه من النار ، وله الأجر والثواب يوم الحساب . فقام إليه شيخ كبير من أهل مكة فقال له : يا خرساني بلدنا حالتها شديدة ، وأيام الحج معدودة ، ومواسمه محدودة ، وأبواب الكسب مسدودة ، فلعل هذا المال يقع في يد مؤمن فقير وشيخ كبير ، يطمع في عهد عليك ، لو رد المال إليك ، تمنحه شيئا شيئا يسيرا ، ومالا حلالا . قال الخرساني : فما مقدار حلوانه ؟ كم يريد ؟ قال الشيخ الكبير : يريد العشر مائة دينار عشر الألف . فلم يرض الخرسانى وقال : لا أفعل ولكنى أفوض أمره إلى الله ، وأشكوه إليه يوم نلقاه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل . قال ابن جرير الطبرى: فوقع في نفسي أن الشيخ الكبير رجل فقير ، وقد وجد كيس الدنانير ويطمع في جزء يسير ، فتبعته حتى عاد إلى منزله ، فكان كما ظننت ، سمعته ينادى على امرأته ويقول : يا لبابة . فقالت له : لبيك أبا غياث . قال : وجدت صاحب الدنانير ينادي عليه ، ولا يريد أن يجعل لواجده شيئا ، فقلت له : أعطنا منه مائة دينار ، فأبى وفوض أمره إلى الله ، ماذا أفعل يا لبابة ؟ لا بد لى من رده ، إنى أخاف ربى ، أخاف أن يضاعف ذنبي . فقالت له زوجته : يا رجل نحن نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة ، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي ، وأنت تاسعنا ، لا شاة لنا ولا مرعى ، خذ المال كله ، أشبعنا منه فإننا جوعي , واكسنا به فأنت بحالنا أوعى ، ولعل الله عز وجل يغنيك بعد ذلك ، فتعطيه المال بعد إطعامك لعيالك ، أو يقضي الله دينك يوم يكون الملك للمالك . فقال لها يا لبابة : أآكل حراما بعد ست وثمانين عاما بلغها عمري ، وأحرق أحشائي بالنار بعد أن صبرت على فقرى ، وأستوجب غضب الجبار، وأنا قريب من قبرى ، لا والله لا أفعل . قال ابن جرير الطبري : فانصرفت وأنا في عجب من أمره هو وزوجته ، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار، سمعت صاحب الدنانير ينادى … يقول : يا أهل مكة ، يا معاشر الحجاج ، يا وفد الله من الحاضر والبادي ، من وجد كيسا فيه ألف دينار، فليرده إلى وله الأجر والثواب عند الله . فقام إليه الشيخ الكبير ، وقال : يا خرساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك ، وبلدنا والله قليلة الزرع والضرع ، فجد على من وجد المال بشئ حتى لا يخالف الشرع ، وقد قلت لك أن تدفع لمن وجده مائة دينار فأبيت ، فإن وقع مالك في يد رجل يخاف الله عز وجل ، فهلا أعطيتهم عشرة دنانير فقط بدلا من مائة ، يكون لهم فها ستر وصيانة ، وكفاف وأمانة . فقال له الخرساني : لا أفعل ، وأحتسب مالي عند الله ، وأشكوه إليه يوم نلقاه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل . قال ابن جرير الطبري : ثم افترق الناس وذهبوا ، فلما أصبحنا في ساعة من ساعات من النهار ، سمعت صاحب الدنانير ينادي ذلك النداء بعينه ويقول : يا معاشر الحجاج ، يا وفد الله من الحاضر والبادي ، من وجد كيسا فيه ألف دينار فرده على له الأجر والثواب عند الله . فقام إليه الشيخ الكبير فقال له : يا خرساني ، قلت لك أول أمس امنح من وجده مائة دينار فأبيت ، ثم عشرة فأبيت ، فهلا منحت من وجده دينارا واحدا ، يشتري بنصفه إربة يطلبها ، وبالنصف الأخر شاة يحلبها ، فيسقى الناس ويكتسب ، ويطعم أولاده ويحتسب . قال الخرسانى : لا أفعل ولكن أحيله على الله وأشكوه لربه يوم نلقاه ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . فجذبه الشيخ الكبير ، وقال له : تعال يا هذا وخذ دنانيرك ودعني أنام الليل ، فلم يهنأ لي بال منذ أن وجدت هذا المال . يقول ابن جرير : فذهب مع صاحب الدنانير ، وتبعتهما ، حتى دخل الشيخ منزله ، فنبش الأرض وأخرج الدنانير وقال : خذ مالك ، وأسأل الله أن يعفوي عنى ، ويرزقني من فضله . فأخذها الخرسانى وأراد الخروج ، فلما بلغ باب الدار ، قال : يا شيخ مات أبي رحمه الله وترك لى ثلاثة آلاف دينار ، وقال لي : أخرج ثلثها ففرقه على أحق الناس عندك ، فربطتها في هذا الكيس حتى أنفقه على من يستحق ، والله ما رأيت منذ خرجت من خرسان إلى ههنا رجلا أولى بها منك ، فخذه بارك الله لك فيه ، وجزاك خيرا على أمانتك ، وصبرك على فقرك ، ثم ذهب وترك المال . فقام الشيخ الكبير يبكى ويدعو الله ويقول : رحم الله صاحب المال في قبره ، وبارك الله في ولده . قال ابن جرير : فوليت خلف الخراساني فلحقني أبو غياث وردني ، فقال لي إجلس فقد رأيتك تتبعني في أول يوم وعرفت خبرنا بالأمس واليوم ، سمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول : سمعت مالكا يقول : سمعت نافعا يقول : عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعمر وعلي رضي الله عنهما ، إذا أتاكما الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس ، فاقبلاها ولا ترداها ، فترداها على الله عز وجل ، وهذه هدية من الله والهدية لمن حضر . ثم قال : يا لبابة ، يا فلانة ، يا فلانة ، وصاح ببناته والأختين وزوجته وأمها ، وقعد وأقعدني ، فصرنا عشرة ، فحل الكيس وقال : أبسطوا حجوركم فبسطت حجري ، وما كان لهن قميص له حجر يبسطونه ، فمدوا أيديهم ، وأقبل يعد دينارا دينارا ، حتى إذا بلغ العاشر إلي ، قال : ولك دينار ، حتى فرغ من الكيس ، وكان فيه ألف دينار ، فأعطانى مائة دينار . يقول ابن جرير الطبرى : فدخل قلبي من سرور غناهم أشد من فرحى بالمائة دينار ، فلما أردت الخروج قال لي : يا فتى إنك لمبارك ، وما رأيت هذا المال قط ولا أملته ، وإني لأنصحك أنه حلال فاحتفظ به ، واعلم أني كنت أقوم فأصلي الفجر في هذا القميص البالى ، ثم أخلعه حتى تصلى بناتي واحدة واحدة ، ثم أخرج للعمل إلى ما بين الظهر والعصر ، ثم أعود في آخر النهار بما فتح الله عز وجل على من تمر وكسيرات خبز ، ثم أخلع ثيابى لبناتى فيصلين فيه الظهر والعصر ، وهكذا فى المغرب والعشاء الآخرة ، وما كنا نتصور أن نرى هذه الدنانير ، فنفعهن الله بما أخذن ، ونفعني وإياك بما أخذنا ، ورحم صاحب المال في قبره ، وأضعف الثواب لولد ، وشكر الله له . قال ابن جرير : فودعته ، وأخذت مائة دينار ، كتبت العلم بها سنتين ، أتقوت بها وأشتري منها الورق وأسافر وأعطي الأجرة ، وبعد ستة عشر عاما ذهبت إلى مكة ، وسألت عن الشيخ ، فقيل إنه مات بعد ذلك بشهور ، وماتت زوجته وأمها والأختان ، ولم يبق إلا البنات ، فسألت عنهن فوجدتهن قد تزوجن بملوك وأمراء ، وذلك لما انتشر خبر صلاح والدهن فى الآفاق ، فكنت أنزل على أزواجهن ، فيأنسون بي ويكرموني حتى توفاهن الله ، فبارك الله لهم فيما صاروا إليه . يقول تعالى : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } د/ محمود عبد الرازق المصدر: خاص بإذاعة طريق الإسلام.
محنة الإمام الطبري: الشهرة والرواج والقبول عند العامة والخاصة من أكثر الأمور التي تجلب على صاحبها المتاعب، وتجعله غرضاً لسهام قلوب ذوي النفوس المريضة بآفات القلوب، مثل الغيرة والحسد والغل إلى آخر هذه الآفات القلبية التي تملأ الصدور بشحنات عالية من الكراهية والبغضاء دون أسباب مقبولة، وصاحبنا الإمام الطبري كان واحداً ممن اجتمعت عليهم كلمة الأمة، مقدماً عند أولي الأمر وأهل العلم وعموم الناس، أضف لذلك خصاله الشخصية من الزهد والورع والترفع عن المناصب والفرار منها بكل سبيل حتى إنه رفض عشرات المرات منصب القضاء في بغداد على ما في المنصب من بريق وسلط ، ورفض بعض الشبهات المغرية لقبول العرض من إقامة العدل وإنصاف الناس وهكذا لأنه علم أنها مجرد حجج يُستدرج بها العالم لقبول المناصب، ثم ما يلبث أن يجد ظروف المنصب ومتطلباته تضغط عليه، فيتنازل شيئا فشيئا، فحسم الإمام المسألة من بداياتها ورفض كل المناصب كافة.
بداية المحنة: كان المذهب الحنبلي هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد -رحمه الله- في محنة خلق القرآن وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، وأقبلوا على تعلم العلم وفقًا للمذهب الحنبلي، حتى أصبح الحنابلة أغلبية بأرض العراق، وكان رأس الحنابلة بالعراق أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السنن، ولم يكن الرجل جديراً بهذا المنصب على الرغم من مواهبه وقدراته، ولكنه نال الزعامة الشعبية لدى الحنابلة؛ لشهرة أبيه الحافظ الكبير أبي دواد والذي يعد من تلاميذ الإمام أحمد المقربين له.كانت بين أبي بكر وبين الإمام ابن جرير الطبري مشاحنات وخلافات، وكلاهما لا ينصف الآخر، ووقع بينهما ما يقع بين الأقران في كل عصر ومكان، ولو وقف الخلاف بين الرجلين عند هذا الحد لكان الأمر هينًا يسيرًا؛ لتوافر أمثال هذه الخلافات في كل عصر، ولكن هذا الخلاف قد أخذ منحنىً جديدًا حتى تحول إلى محنة كبيرة للإمام ابن جرير الطبري.تحول الخلاف الشخصي بين الرجلين لحملة شعواء على الإمام الطبري زاد من أورها التعصب والجهل ودخول عوام الناس في القضية، وهؤلاء أتباع كل ناعق، ووقود أي فتنة. ذلك أن الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود قد دفعهم التعصب المذهبي المقيت لأن يشنعوا على ابن جرير ويشيعوا عليه الأكاذيب والأباطيل الذي هو منها براء، بل هو من أبعد الناس عما اتهموه به؛ ذلك أن الحنابلة قد أشاعوا على الإمام الطبري أنه من الروافض، ورموه بالتشيع والإمامية، وشعبوا عليه بشدة، وصدقهم كثير ممن لا عقول لهم إلا في آذانهم، وكان سبب هذا الرواج وانتشار هذه الشناعات عدة أمور منها: 1-تأليف الإمام الطبري كتاباً في اختلاف العلماء والمذاهب في الأمصار، وكان كتاباً ضخماً وحافلاً إلا أنه لم يذكر فيه المذهب الحنبلي، حيث كان يرى أن الإمام أحمد معدود من جملة المحدثين وليس من جملة الفقهاء، ولا شك أن هذا الصنيع منه فيه شيء من التحامل على الإمام أحمد، فمذهبه الفقهي معروف ومدون وتلاميذه كانوا يملئون العراق، غير أن الإمام الطبري ربما كان معذوراً بأن المذاهب الأخرى كانت أقدم وأكثر شهرةً ورواجاً في العالم الإسلامي، ومذهب الحنابلة كان قاصراً على العراق فقط. المهم أن الحنابلة وجدوا في هذا الصنيع فرصةً للنيل من الإمام الطبري والتشنيع عليه بكراهية الإمام أحمد، ثم بنوا على تلك المقدمة الفاسدة، نتائج أشنع مفاداها: أنه مادام الطبري يكره الإمام أحمد، إذاً فالطبري فاسد العقيدة، معتزلي أو شيعي رافضي!! وكانت هذه التهمة في هذا الوقت كفيلة بالإطاحة بأكبر الرموز والعلماء حتى ولو كانوا من طراز الإمام الطبري. 2-من الأمور التي ساعدت على قبول العامة لفرية تشيع الطبري ورفضه، قيام الإمام الطبري بجمع طرق حديث (غدير خم) وذلك في أربعة أجزاء باهرة تدل على سعة علمه ومروياته، وهو الحديث الشهير “من كنت مولاه، فعلي مولاه…”، وهو الحديث العمدة عند جميع طوائف الشيعة والذين يستدلون به على أحقية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شك فيه، ولكن لا دلالة فيه على أحقية علي -رضي الله عنه- في الخلافة، وتأويله يختلف بالكلية عما ذهب إليه الروافض الجهلة، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث؛ هو قيام أبي بكر بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، ومن باب الأمانة العلمية وليس من باب الميل للتشيع أو التأثر به قام الإمام الطبري بجمع طرق الحديث، وقد أقر أبو بكر بن أبي داود بعد ذلك بصحة حديث الغدير. 3-من الأمور التي ساعدت على تثبيت التهمة بالتشيع على الإمام الطبري عند العامة وحواشي الناس وجود عالم من علماء الشيعة الإمامية يحمل نفس الاسم ونفس الكنية وهو أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري، وكان من كبار الروافض، وقد صنف كتبًا كثيرة في ضلالات التشيع مثل كتاب (المسترشد في الإمامة) و(الرواة عن أهل البيت)، وقد أدى هذا التشابه العجيب لخلط الناس بين الرجلين، وشتان ما بينهما، ولم يكن هناك وسائل اتصال حديثة تمكن عموم الناس من معرفة الفرق بين الرجلين، والعامة عقولهم في آذانهم، يتلقفون ما يأتي على هواهم دون تمييز وتمحيص. ولقد أحسن الإمام الذهبي صنعًا عندما أورد ترجمة الطبري الرافضي مباشرة خلف ترجمة جبل السنة ابن جرير الطبري، حتى لا يختلط الأمر على الناس، وللتمييز بين الرجلين. 4-رفض الإمام الطبري لعقيدة ” الإقعاد ” التي كان يروج لها أبو بكر بن أبي داود. ومفاد هذه العقيدة أن بعض الحنابلة ومنهم أبو بكر يفسرون “المقام المحمود” بإجلاس المولى -جل وعلا- للنبي -صلى الله عليه وسلم- على العرش يوم القيامة . وقد كتب الإمام الطبري جزءاً بيّن فيه بطلان هذه العقيدة والحديث الذي ورد في شأنها، وكان أبو بكر عدو الطبري نفسه من رواة هذا الحديث، مما زاد من كراهية أبي بكر وحزبه له. هذه الأمور وغيرها جعلت فصول المحنة تستحكم، وتضيق حلقاتها على الإمام الطبري، فبعد هجمة شرسة من الشناعات والأباطيل والأكاذيب بحق هذا العالم الجليل قام الحنابلة بالتشويش على الطبري في مجالسه، وتنفير الطلبة من مجالسه، ومع ذلك ظل الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته. نقل الطبري دروسه إلى بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر عوام الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلو والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إن كل طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يرووا عنه شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن علي دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطبري، وعندما علم أستاذه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه (حسنيك): “ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلت الحنابلة بحقه”. ظل الطبري حبيسًا في بيته يعاني من الاضطهاد الشديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصته، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين وأنهكته السنون، ورحلات طلب العلم في شتى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردهم شيء، لا مكانة علمية ولا كبر سن، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة محاصرين لبيت الطبري حتى حان وقت الرحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظل الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة.وبلغت المحنة أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصلاة عليه حتى إن الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا.رحل الطبري عن دنيانا الفانية محاصرًا مظلومًا مضطهدًا من الجهلة والمتعصبين، وراح ضحية محنة مقيتة، وإن كان خصومه قد نالوا من دنياه، فإنه ولا شك قد نال من آخرتهم، وقد رفع الله -عز وجل- ذكره بين الناس وقام له سوق الثناء والفضل والدعاء ولم ينفض، في حين باء الجهلة والمتعصبون بالخسران والنكران في الدنيا والآخرة.
أكبر درس من محنة الإمام الطبري: التعصب هو الذي قتل الأمة. فالتعصب يعتبر العائق الأساسي أمام كل أشكال التقارب بين الأفراد والجماعات والشعوب والمؤسسات وذلك لأنه يكرس أسباب الفرقة ويهدم ما هو قائم من قواعد الاتفاق والوحدة ،والتعصب له أوجه كثيرة أبرزها التعصب الديني وهو الأعلى صوتاً والأكثر ظهوراً والأعمق تأثيراً، ومنه التعصب للقبيلة وهو ما كان عليه العرب في الجاهلية الأولى، ومازالت آثاره قائمة حتى اليوم، ومنها التعصب للعنصر أو اللون أو اللسان أو الوطن أو المنهج الثقافي، ورغم أوجه التعصب الكثيرة إلا أن هناك سمات عامة مشتركة بين المتعصبين بمثابة الميثاق العام للتعصب، ومن أبرز هذه السمات: 1-العاطفية الشديدة: فالتعصب له علاقة لغوية بالعصبية للقبيلة والعشيرة والزمرة والصحبة، ويعني التألب مع من يحب ضد من يناوئهم سواء كانوا ظالمين أو مظلومين، وهذا يفيد أن المتعصب لشيء أو ضده يتسم بالعاطفية الشديدة والميل القوي نحو من يتعصب لهم، فهو لا يري إلا الحسنات والإيجابيات ولا يري أبداً السلبيات والسيئات، أي أن المتعصب مصاب بعمى الألوان، فالمتعصب يصم آذانه ويغلق عيونه ويسكر حواسه تجاه سماع الحق ومعرفة الصواب، فهو غارق في أهوائه وعواطفه، وحتى لو استخدم عقله فإن النتاج الفكري لتشغيل عقله يبقى أسيراً لقيود العاطفة وأغلال الهوى. 2-العجلة: فالمتعصب إنسان شديد العجلة، متسرعاً في إصدار أحكامه واتخاذ قراراته، لا يستند في دعاواه لأي مستند شرعي أو عرفي، ولا يعتمد على أدلة ولا براهين. فالمتعصب مع من يتعصب له على طول الخط، في الحب والكراهية والإقدام والإحجام والصواب والخطأ، لا يسأل عن أدلة ولا براهين كما قال الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم***في النائبات على ما قال برهانا 3-الجمود: فالمتعصب إنسان ورث أفكاراً وأنماطاً وعادات وقرارات ورؤى من الآباء والأسلاف والشيوخ والكبار، ورثها كابراً عن كابر، يراها من المقدسات التي يجب التسليم بصحتها وحكمتها، ويثق فيها ثقة مطلقة، فإذا تعصب لقومه مثلاً فإنه يحفظ كل مآثر هؤلاء القوم، ويصبحوا في نظره رمزاً للأمانة والصدق والشجاعة وفضائل الأخلاق، ويرفض تماماً أي نقد ورأي مخالف لما توارثه عن قومه، وكذلك الشيوخ كلامهم عند المتعصب يقدم على كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم، بل يؤول كلام الله ورسوله؛ ليوافق كلام شيخه وإمامه حتى لا يقال عنده أخطأ الإمام وأصاب غيره.وعندما تقرأ ما أورده الحافظ ابن الأثير، والحافظ ابن كثير في خبر محنة الإمام الطبري تجده ملخصاً مختصراً لكل هذه السمات للمتعصب الجاهل.ذكر ابن الأثير عن الطبري فقال: “وفي هذه السنة –يقصد 310هـ-توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ودفن ليلًا بداره؛ لأن العامة -يعني الحنابلة- اجتمعت ومنعت من دفنه نهارًا وادعوا عليه الرفض، ثم ادعوا عليه الإلحاد، وكان علي بن عيسى –الوزير- يقول : “والله لو سُئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه “.وذكر ابن كثير في ترجمة الطبري، فقال: “ودُفن في داره؛ لأن بعض الرعاع من عوام الحنابلة منعوا من دفنه نهارًا، ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من هذا ومن ذاك أيضًا، بل كان أحد أئمة الإسلام في العلم بكتاب الله وسُنة رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن أبي داود، حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم ويرميه بالرفض”. وعبارة “تقلدوا ذلك عن أبي بكر بن أبي داود” تختصر قصة التعصب: جهل وتقليد وعاطفة غير راشدة.
من موقع الخطباء