غزل الشاعرات الأندلسيات..
ازدهر الغزل في العصر الأندلسي أزدهاراً قل نظيره وقد ساعد على أذكاء جدوته عناصر مختلفة منها الجمال ، الطبيعة ، التحضر ، والتقدم العمراني ، وكثرة مجالس اللهو ، والشراب ، والغناء ، والسبي الدائم ، الذي أرخص أقتناء الجواري الغلمان في أسواق المخاسة والرقيق .
وأتبع الأندلسيون في شعرهم عامة وفي غزلهم خاصة مناهج المشرقيين فعرفوا الغزل التقليدي والغزل الأباحي والغزل العفيف ، لكن جملة أمور تلفت النظر في غزلهم منها :
1_ أقبال المرآة على قرض الغزل وتغزلها بالرجل مع بعض الأختلاف بين غزلها وغزل الرجل .
2_ كثرة الشاعرات الأندلسيات الغزلات
3_ شيوع الغزل بالمذكر بشكل فاق نظيره في المشرق دون حياء في وصف أو خجل في تصوير الشذوذ الجنسي أو ذكر عورات الجسد مع أنحدار بالالفاظ والمعاني الى الدرك الزري .
4_ ظهور الموشحات وقد طرق معظمها موضوع الحب .
وأهم شعراء الغزل في هذا العصر أبن زيدون ، والحصري القيروني ، وأبن شهيد ، وابو بكر بن زهر ، وابن خفاجة ، والشاعرة حمدون بن زياد ، ونزهون الغرناطية ؛ولاده بنت المستكفي وهنا نتوقف عند موقف لها يبين مجاهرتها وجرائتها في الغزل حينماسمعت ولادة بنت المستكفي الشاعر ابن زيدون في غرفة من غرف البال وهو يلقي قصيدة فاستفردت به في البرايفت وطلب صورتها فأرسلت له الصورة ومعها هذه الأبيات من الشعر
ترقب إذا جن الظــــــــلام زيارتي فإني رأيت الــــــليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان للبدر ما بدا وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر
انا والله أصلح للمــــــعالي وأمــــشي مشيتي وأتيه تيها
أمكن عاشقي من صحن خدي وأمنح قبلتي من يشتهيها
ومن الأدلة على تلك الحرية التي كانت تتمتع بها شاعرات الأندلس إلى جانب ما ذكرنا أنهن كن يجاهرن بعشقهن للرجال ويتغزلن بهم من غير أن يخشين في ذلك لومة لائم، وقد ذاع من ذلك قصص كثيرة وشعر كثير، فقد احبت ولادة بنت المستكفي الشاعر المشهور ابن زيدون وأحبها، وذكرت المصادر أنها كانت البادئة في طلب اللقاء به :
ومن مظاهر تحرر ولادة انها بعد اختلافها مع ابن زيدون وانفصالها عنه أقامت علاقة حب مع منافسه الوزير ابن عبدوس، ولم تتزوج، وظلت تواصله ويواصلها وتراسله ويراسلها إلى أن أربيا على الثمانين. وهذا يطرح أمامنا سؤالا مهما: هل كان المجتمع الأندلسي يسمح للمرأة والرجل أن يتواصلا من غير زواج على غرار ما يجري في هذه الأيام في اوروبا والغرب..؟
ومن الشاعرات اللاتي جاهرن بالغزل بمحبيهن، الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية، التي كانت على علاقة عشق مع الشاعر أبي جعفر ابن سعيد، فقد تناقلت لها المصادر الأدبية كثيرا من شعرها الغزلي الرقيق فيه، فمن ذلك قولها:
أغار عليك من عيني رقيبي
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
وقولها:
ثنائي على تلك الثنايا لأنني
أقول على علم وأنطق عن خبر
وانصفها لا اكذب الله إنني
رشفت بها ريقاً ألذ من الخمر
وكتبت له ذات مرة:
أزورك أم تزور فإن قلبي
إلى ما ملتم أبدا يميل
فثغري مورد عذب زلال
وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمأ وتضحى
إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل
أناتك عن بثينة يا جميل
ولما طمع أمير غرناطة الموحدي أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن في حبها، وقتل حبيبها أبا جعفر سنة 559 هـ/1198 م من أجل ذلك حزنت عليه حفصة كثيرا وجاهرت برثائه والبكاء عليه ولبست الحداد، فهددها المؤمن، وقالت:
هددوني من أجل لبس الحداد لحبيب اردوه لي بالحداد
رحم الله من يجود بدمع
أو ينوح على قتيل الأعادي
وسقته بمثل جود يديه
احيث أضحى من البلاد، الغوادي
ومن مراثيها فيه:
ولو لم يكن نجما لما كان ناظري
وقد غبت عنه مظلما بعد نوره
سلام على تلك المحاسن من شج
تناءت بنعماه وطيب سروره
ومن ذلك أيضا:
سلوا البارق الخفاق والليل ساكن
أظل بأحبائي يذكرني وهنا
لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة
وأمطرني منهل عارضه الجفنا
خاتمة
ان شيوع مثل هذه الظواهر في سلوك المرأة الأندلسية وأشعارها مرده إلى التفاعل الاجتماعي الذي شهده المجتمع الأندلسي، فقد حدث امتزاج بين العرب والإسبان من خلال المصاهرة واقتناء الجواري الإسبانيات، مما أدى إلى انتقال بعض العادات الأوروبية إلى المجتمع الأندلسي، وقد كانت نساء غالبية الأمراء والخلفاء والولاة وحتى أبناء الطبقات الرفيعة، من الجواري الإسبانيات مما كان له تأثير عميق على الأسرة الأندلسية. وكان معظم السلاطين يعتمدون في ادارة شؤون قصورهم على العنصر الصقلي والإسباني ممن كانوا يعدون بالآلاف في تلك القصور كالذي كان في أيام عبد الرحمن الداخل والحكم الربضي وعبد الرحمن الناصر والمنصور بن أبي عامر وسواهم. كما ترك أهالي البلاد الأصليون من الإسبان الذين عاشوا في ظل الحكم الإسلامي تأثيرات واضحة في خصائص المجتمع الأندلسي وفي سلوك ابنائه وسلوك المرأة الأندلسية.
ولا شك أن ميل الأندلسيين إلى التحرر وانتهاز فرص العيش الرغد وحرصهم على تحقيق الإنسجام مع ما وهبه الله للأندلس من غنى وتنوع وجمال في الطبيعة والمخلوقات، كانت جميعها عوامل أدت إلى شيوع هذه الظواهر في شعر المرأة الأندلسية. وقد كانت هذه الظواهر اكثر بروزاً في شعر الطبقات الثرية والمترفة منها في شعر الطبقات الفقيرة. ولذلك نجد إلى جانب شاعرات الغزل والمجون والهجاء شاعرات اندلسيات أخريات يلتزمن الورع والتقوى والعفاف والجد والصيانة والرصانة.
وقد كشفت لنا أشعار المرأة الأندلسية عن تمايز طبقي واضح في مجتمع المرأة الأندلسية، فبينما نجد بعض النساء يقصدن قصور الأمراء والسلاطين للتكسب بشعرهن بسبب الحاجة والفقر، نجد في الوقت نفسه بعض الشاعرات يعشن عيشة مترفة مثل ولادة بنت المستكفي وحفصة بنت حمدون الحجارية التي تقول متضجرة من عبيدها:
يا رب إني من عبيدي على جمر الغضا ما فيهم من نجيب
إما جهول أبله متعب
أو فطن من كيده لا أخيب
ونلاحظ كذلك مما وصلنا من أشعار النساء الأندلسيات، أن منهن من يترسم خطى الشعراء من السلف في اساليبهم وصورهم ولغتهم وتعبيراتهم ، ومنهن من يميل إلى الرقة والتجديد في الصور واللغة والأساليب.
إن ما وصلنا من شعر نساء الأندلس يصلح شاهدا على ظروف المرأة الأندلسية وشخصيتها وطباعها، لكن لا بد من الافتراض أن كثيرا من النتاج الإبداعي للمرأة الأندلسية لم يصل إلينا، بفعل ما أصاب التراث الأندلسي من تدمير وضياع، وربما بسبب تحرج بعض مؤرخي الأدب الأندلسي من ايراد أشعار تلك النساء.
تورد كتب التراث الأندلسي اخباراً كثيرة عن نزهون القلاعية وحضورها مجالس الرجال ومساجلتهم ومهاجاتهم، وكانت موصوفة بخفة الروح والطباع النادرة. ومن الأخبار الدالة على مخالطتها للرجال ومناكفتها لهم أنه روي انها كانت تقرأ يوما على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليها أبو بكر الكتندي، فقال مخاطباً الشاعر المخزومي الأعمى:
لو كنت تبصر من تجالسه..
وصمت المخزومي برهة يفكر، ولم يحر جوابا، فأجابت نزهون:
لغدوت أخرس من خلاخله
البدر يطلع من أزرته
والغصن يمرح في غلائله
وبسبب رقة طبع هذه الشاعرة وخفة ظلها كلف الشعراء بمحادثتها ومراسلتها ومنهم أبو بكر بن سعيد وأبو بكر المخزومي وابن قزمان الشاعر وأبو بكر الكتندي، وكانت تجالسهم وتهاجيهم بسلاطة لسان. ومن نوادرها أن ابن قزمان الزجال جاء يوما ليناظرها، وكان يرتدي غفارة صفراء ـ وهي زي الفقهاء يومئذ ـ وعندما لمحته قالت له: إنك اليوم كبقرة بني اسرائيل، صفراء فاقع لونها، ولكنك لا تسر الناظرين. فضحك الجميع ممن حضر وثار ابن قزمان واستشاط غضبا، فأخذ يسب واندفع الحاضرون إليه وطرحوه في بركة أمام البستان.
وفي أحد مجالس أبي بكر بن سعيد الوزير تصدى الشاعر أبو بكر المخزومي الأعمى، وكان شاعراً مقذعاً في هجائه، لنزهون وقال هاجيا:
على وجه نزهون من الحسن مسحة
وإن كان قد امسى من الضوء عاريا
قواصد نزهون توارك غيرها
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فردت عليه نزهون:
قل للوضيع مقالاً
يتلى إلى حين يحشر
**
خلقت أعمى ولكن
تهيم في كل أعور
جازيت شعرا بشعر فقل لعمري من أشعر
إن كنت في الخلق أنثى فإن شعري مذكر
وفي ردها عليه أبيات فاحشة لم اوردها. وله في هجائها شعر فاحش أيضا.
كانت تلك أمثلة تدل على أن شاعرات الأندلس كن يشاركن الرجال في مجالسهم الأدبية ولا يتورعن عن الخوض في أي موضوع. وهذا يدل على ما كانت تتمتع به المرأة من حرية ربما فاقت نظيرتها في بلدان أخرى