الكلام يقال ليفنى .. و«الكتابة» تُرسم لتبقى. بقلم الكاتبة المتألقة. جنان التميمي
الحديث عن الكتابة في تاريخ البشرية هو حديث عن الحضارة؛ فالحضارة بنت الكتابة. والتاريخ يبدأ بالكتابة. وأي حضارة تتكون دون الكتابة هي تاريخ بلا ذاكرة. ينقل القلقشندي في “صبح الأعشى”، “وبالكتابة والكتّاب قامت السياسة والرياسة، ولو أن في الصناعات صناعة مربوبة لكانت الكتابة ربّا لكل صنعة”. فالكتابة صنعة لا يتقنها إلا من له حظ وفير من القراءة، ونصيب من المعرفة واتساع الرؤية. وهذا لا يعني أن الكتابة محصورة في المبدعين والكتاب المحترفين الذين يتقنون صنعة الكتابة. كلنا نكتب أو نستطيع أن نكتب، ولكن لِمَن نكتب؟. وأين نكتب؟ وماذا نكتب؟
تطورت الكتابة عبر الزمن من ناحية أداة الكتابة ومن ناحية الوسط الذي ينقل المكتوب؛ بدءا بالنقش على الحجر، وانتهاء بالنقر على لوحة المفاتيح وشاشات اللمس. إن اختلاف أدوات الكتابة يؤثر في شكل المكتوب لكنه لا يغير مضمونه؛ وإن كان بعض القراء يرتبط ارتباطا نفسيا بالورق ويفضله على القراءة من الشاشة. وهذا يذكرنا بقول الجاحظ في تفضيل بعض القراء آنذاك للمكتوب على الجلد عن المكتوب على ورق القطني بسبب نوع الورق لا من أجل المحتوى “وليس لدفاتر القطنيّ أثمانٌ في السوق وإن كان فيها كلًّ حديث طريف، ولطفٍ مليح، وعلم نفيس. ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلوداً ثم كان فيها كلُّ شعر بارد وكلُّ حديث غثّ، لكانت أثمن، ولكانوا عليها أسرع”. وفي عالم التقنية اليوم كما تبدّلت طقوس الكتابة تبدلت طقوس القراءة من على الورق الذي نمسكه بكلتا يدينا إلى شاشة مضيئة صغيرة نحملها في جيوبنا، نتنقّل فيها بين صفحات الصحف بلمسة واحدة وبسرعة فائقة. وكل شيء من حولك يستحثك للقراءة والكتابة؛ الشبكات الاجتماعية تدفعك للكتابة. “الفيسبوك” يحضّك ويستثير قدرة الكتابة فيك حين يسألك على رأس صفحتك “بم تفكر؟”، و”تويتر” يسألك “ماذا يحدث؟”. وكلنا نكتب. وليس مهما أين تكتب ولكن المهم “ماذا نكتب؟”.
اكتب عن أي شيء، أو اكتب عن اللا شيء. الكتابة صناعة لا تتطلب من المواد الأولية إلا فكرة مدهشة وخيالا خصب وثوبا قشيبا من الألفاظ الزاهية. الكتابة إنتاج، والقراءة ليست استهلاكا بل إنتاج آخر. والنص الذي نستمتع بقراءته هو نص استمتع الكاتب بكتابته. إن قارئ النص يتحول إلى منتج للنص وعنصر فعّال يثري النص بالقراءة. ويزيدُ جمال النصِّ قارئ جيّد!
الكلام لحظيّ سريع الزوال، لكن الكتابة نقش يدوم، الكلام يُقال ليفنى، والكتابة تُرسم لتبقى. إن الكتابة تعني تداول المعنى. وأن تكتب هذا يعني أن تقرأ؛ ففعل الكتابة ملازم لفعل القراءة. إذْ لا يمكن أن تكون كاتبا إلا أن تكون قارئا. قالوا “شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله. والكتاب يُقرأ بكل مكان، ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوزه إلى غيره”. يموت الإنسان لكن أفكاره التي كتبها لا تموت. وبنات الأفكار لا تثبتُ بنوّتها إلا بالكتابة. إن الكتابة حين تخاطب الناس بآمالهم وأشواقهم وأفراحهم وأحزانهم تربط الفكرة بوثاق الزمن، وتكفل لها خلودا متجددا مع كل قراءة جديدة. وأعلى أنواع الكتابة رتبة من الشعر أو النثر هو ذلك النص الذي تكتبه عنك ويتلقاه القارئ عن نفسه؛ حتى يتمنى القارئ لو كان النص موسوما باسمه. نصّ كأن الكاتب يكتب في ختام كل جملة فيه للقارئ “إني أكتب هذا عنّي وعنك”.
إذا أردت الكتابة باسترسال وإبداع؛ فألجم الناقد الداخلي فيك وانطلق بالكتابة. اكتب أفكارك كما هي في مسودات، تعود إليها بعد حين لتقرأها بعينك الناقدة، ثم تصححها. الناقد لا يعمل على النص إلا بعد أن يكتمل؛ وإذا اشتغل الناقد مع المبدع في ذات الوقت فإنه يدفن الإبداع في مهده. لذلك لا بد أن تفصل ذاتك الناقدة عن ذاتك المبدعة حين تكتب. إن تقنيات كتابة المقالة والقصة والرواية والقصيدة تعطيك معايير لتحديد وتصنيف جنس الخطاب الذي ينتمي إليه النص. والكاتب المبدع لا تكبله معايير ومواصفات النص الذي يكتبه؛ بل تتشكل تلك المعايير وفقا لنوع النص بانتظام محكم تلقائي، ولو خرج المبدع عن العناصر المتعارف عليها، لا يعدّ مخطئا؛ بل مبدعا لجنس أدبي جديد.
الكاتب هو القارئ الأول، القارئ الذي أوجده النص. إن الكلمات التي نكتبها تغدو جزءا منا. الكلمات توفر لأفكارنا وجودا ماديا ملموسا لنا ولغيرنا، بتأويلنا أو بتأويل القراء. قد تكون الفكرة شرارة تشتعل بسرعة في لهيب نص لافت. أو تكون الفكرة بذرة تنمو ببطء بعد الاجتهاد في توفير العوامل المناسبة. نبني النص كلمة كلمة حين نصعد سلّم النص سطرا سطرا. الكتابة للحفظ “تدوين” وذلك حفظ للبيانات والمعلومات من النسيان والمحو. أما الكتابة التي نريد هنا فهي إيجاد المعنى بالكلمات، صناعة الجمال باللغة، إبداع الفكرة من الفكرة في سلسلة من الأفكار يتوالد بعضها من بعض. ربما لا يقرأ لك أحد اليوم، لكن حتما سيكون لك قارئ بألف قارئ، وأهم القراء الذين سيفهمون ما تكتب اليوم وغدا ويلامس قلوبهم قبل عقولهم هو أنت. اكتب من أجل الكتابة فقط. اكتب من أجل نفسك؛ وهل على الدنيا هذه من هو أجلّ وأعزّ من نفسك! اكتب حتى تحفظ جزءا من يومك لغدك، ومن أمسك لمستقبلك. اكتب حتى تتحول الفكرة من شيء يتلاشى ويزول إلى رسم يبقى أبدا ولا يفنى.
عن جريدة الاقتصادية الخميس 4 يناير 2018- جنان التميمي-الرياض