برفسيور.سعيد فالح الغامدي.كاتب ساخر.. بؤس يتيم أرضعوه من العنز ولم يرى أمه الا قبل وفاتها بشهرين.
يروي الدكتور سعيد فالح الغامدي طرفة واقعية حدثت مع بداية صدور نظام البطاقات الشخصية مع مطلع القرن الهجري الحالي (الثمانينات الميلادية) وقد وقعت القصة في دائرة الأحوال في جدة، حيث تقاطر الناس لاستبدال ما لديهم من وثائق كانت تسمى بالتابعية وحل محلها نظام البطاقة الشخصية ثم دفتر العائلة، وكان الناس في صف طويل ينتظر كل دوره بعد فراغ من امامه، وطول الصف تسبب في تلاصق الناس حتى ليسمع الواحد منهم كل ما يقوله الذي امامه كأجوبة على اسئلة الموظف له عن اسمه واسم ابيه واسم أمه، وهنا وقع الإشكال حيث جاء الدور على رجل عليه سيماء الوقار وأخذ الرجل يعطي الموظف ما يطلبه من بيانات الى ان سأله الموظف عن اسم أمه، وهنا التفت الرجل الى الذي كان من خلفه، قاصدا منه ان ينأى بأذنيه قليلا كي يتمكن من النطق باسم امه للموظف من دون ان يسترق السمع عليه احد من المنتظرين في الصف، ولكن صاحبنا – وهو هنا صاحب الدكتور الغامدي – تجاهل اشارات الرجل وإن كان قد ادرك مراده، وهذا ادى بالرجل الى معاودة المحاولة مستخدما جسده في حال من التململ والدفع باتجاه الذي خلفه مع ابداء مزيد من الإشارات الواضحة التي تعني انه يطلب من صاحبنا ان ينزاح، وهنا بدأ شيء من التذمر يظهر لدى الناس المنتظرين في الصف وأحس الناس بتعطل الحركة، بينما ظل الرجلان في حال من تبادل النظرات دون جدوى، ولكن الرجل الذي في مقدمة الصف ظل مصرا على عدم النطق باسم امه الى ان ينزاح الذي خلفه، وهنا روى لنا الدكتور الغامدي قائلا ان صاحبه انفجر بالرجل المستحي من اسم امه زاجرا اياه بصوت عال وواصفا تصرفه بالتصرف الجاهلي والحياء الزائف، وأمام هدير صاحبنا ووابل القول منه مع شيء من التوبيخ لهذه الجهالة والتخلف، امام هذا استسلم الرجل وذكر اسم امه علنا وهو يتصبب عرقا وخجلا مما حدث.
ثم جاء دور صاحبنا الغامدي، صديق الدكتور، وفرد عضلاته امام الجميع ونشر جسده على اطار النافذة مواجها للموظف، وصار يجيب على الأسئلة بصوت جريء الى ان جاء السؤال عن اسم أمه، وقبل ان يجيب التفت من حوله التفاتتين ليكتشف ان الرجل صاحب الحكاية الأولى قد وقف بجانب الصف على مسافة تسمح له بسماح اجوبة صاحبنا، فما كان منه الا ان سأل الرجل: لماذا انت هنا..؟ الم تنته من بطاقتك..؟، وكان الجواب الصارخ ان قال الرجل: لا، لن اذهب حتى اسمع اسم امك مثلما سمعت اسم امي، ولم تجد محاولات الغامدي بصرف الرجل ولا بالتلطف معه بأن يتكل على الله ويذهب، وجاءت اصوات الناس من الخلف مرتفعة بالشكوى من تأخر الحركة، وهنا التفت صاحبنا ليقول للرجل: هيا اسمع اسم امي، انها مرفت، هيا انصرف. ولكن الرجل بادره بضحكة مجلجلة ليقول له: روح يا واد، ما فيه غامدية اسمها مرفت.
تلك طرفة يسوقها الدكتور سعيد، وحينما احيل اليه فإنني احيل الى رجل متخصص في علم الاجتماع وكاتب اجتماعي ساخر، وقد التقطت ذاكرته هذه الطرفة الواقعية لما تكتنزه من دلالات اجتماعية. ونحن نستطيع ان نلاحظ كيف ان النسق الثقافي يوفر لأفراد اي ثقافة انماطا من الحيل والوسائل يتمكنون معها من تمثل شروط النسق والانصياع لها، والأدوار الثقافية هنا بارزة المعالم، حيث صار اسم المرأة بمثابة الكاشف النسقي، والحياء من ذكره يقابله وابل من الاستنكار الواعي بما ان ذلك جاهلية وتخلف، ولكن الرجل نفسه وهو يقول بجاهلية التستر على اسم المرأة راح يغطي على اسم امه بغطاء مستعار، وقال انها مرفت في حين انها غير ذلك، ومسمى (مرفت) بحد ذاته يحمل دلالة مزدوجة فهو الاسم التركي لمسمى (مروة) حيث ان الأتراك ينطقون الواو بصوت قريب من الفاء، كما انهم يفتحون التاء المربوطة، وجاء اسم مرفت ليعم في بعض البلاد العربية المتأثرة بالأتراك، ويحل محل مروة، ويدور الزمن دورته ليصبح اسم مروة شعبيا بينما يتسم اسم مرفت بالمدينة.
وكما صار في تاريخ رحلة المسمى صار لحركة التفاف الرجل القبلي على اسم امه ليتلبس بمسمى مدني يحفظ للقبيلة ثقافتها ويبعد عنها العيب والكشف، ولقد استنجد ابن القبيلة بهذه الحيلة لأن النسق دائما يعين ممثليه على التحايل على الواقع المتغير ويزودهم بأقنعة كثيرة تحافظ على بقاء النسق وعلى تمثله.
وليس اليوم ببعيد عن الأمس وقد كنت في حديث مع احد زملائنا في جامعة الملك سعود، حيث ابدى اهتمامه ومتابعته لموضوع مقالاتي هذه وقال انه وضع تجربة مع ابنائه، وسألهم لو ان زملاءكم في المدرسة طلبوا منكم معرفة اسم امكم ماذا تفعلون فكان الجواب المدهش هنا هو الامتعاض حتى قال احدهم لو سألني احد هذا السؤال لقتلته. وأثناء ما كان يقول لي ذلك جاء احد اولاده لينضم الينا وهنا اقترح الأب علي ان اجرب وأسأل الولد عن اسم امه، وهذا ما صار ولكنني بعد ان طرحت السؤال احسست بشيء من الندم ظنا مني انني قد احرجت الولد وأنه سيجيب علي ذاكرا اسم امه تحت ضاغط الاستسلام لحرجه معي او تقديرا لي، ولم اكن اريد ان اضعه في موضع الحرج مني، ولكن ما اسرع مازال ظني هذا، اذ رأيت في عيني الولد جرأة ما حسبتها فيه، وقال لي بسرعة خاطفة، لا لن اقول لك اسم أمي. ولم يكن في وجهه خجل ولا تردد، وهذا هو النسق يشتغل بقوة ليبعث نفسه من جديد وليكون اقوى مما كان عليه، ويزداد النسق قوة كلما زادت التحديات. وللنسق قدرة على تبديل ادواته وتنويع صيغه وابتكار حيل جديدة لإدامة تأثيره.
عن جريدة الرياض – د.عبد الله القذامي .الخميس غرة المحرم 1426هـ