الفنانة تشكيلية جميلة الغامدي ..ارتقاء بالرسم من سخام ” الملّة ” إلى ذروة التميّز
لا شيء يلخّص لك مسيرة الخالة جميلة الغامدي ” 65 ” سنة مع الرسم والألوان وعالمه سوى القول بأنه “شغف منسابٌ صعد من سخام ( الملّة ) إلى ذروة الطموح في سماء التفرّد الإبداعي .
انظر إليها هنا في ركن الفن التشكيلي بقرية الباحة بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة جنادرية 33، تفتح باب الحلم الواسع بلوحات نواضر ، هن حصيلة 65 من سنيّ عمرها الأخضر .
البداية كانت تجسيدًا فعليًا لمعنى ” العزيمة والتصميم “.. فقد كان شغف الرسم يتقافز في داخلها، موهبة في مظراف الفطرة السيلمة، كل يوم يزداد الشغف ويتكثف في وجدانها ، وهي تبحث له عن مخارج ومنافذ للظهور لتعبر عن المحسوسات في بيئة الباحة التي ترعرعت فيها ، وعشقت فيها ما حولها ، فكان حلمها أن تنقل هذه الطبيعة النابضة بالحياة من براح الفضاء المتاح إلى ذاكرة الورق والألوان .. ولكن ، لا معين لديها.. فليس ثمّة ألوان .. ولا فرشاة .. ولا خامات مما هو مستخدم في عالم الرسم .. ثم إنها كغيرها من نساء منطقة الباحة آنذاك ، لم تعرف الطريق إلى المدرسة ، ولم تحتضن أناملها الغضة قلمًا لكي تتعلم القراءة والكتابة .. ولم تكن الفترة القصيرة التي قضتها في المدرسة ثم خرجت منها كافية لذلك .. لكن ؛ لا عجز مع الحيلة ..
ولا حواجز أمام الطموح .. والإرادة القوية قد تُزيل العوائق والصعوبات ، حيث برقت الفكرة والتمعت لـ” جميلة ” ذات ليلة وهي تتحلق مع صويحباتها ونديداتها حول ” الملّة “، موقد النار شتاء ، للدفء والموانسة .. حيث بقايا الفحم ، ولا مساحة إلا بين الأسود فحمًا والأبيض رمادًا بدرجات متفاوتة ..
اهتدت ” جميلة ” لخامة التلوين من المكان ، فبدأت تستدرج ” الفحم” ومخلفات “الملة” في لوحاتها ، مستغلة ذاكرتها وما حفظته من الموجودات حولها ، محولة الحوائط إلى كراسات رسم ، وقطع القماش إلى دفاتر .. ترسم بفطرتها ، وتلوّن بسليقتها ، وتحاور ” الأسود ” بالظلال والتخفيف ، مما أكسبها تجربة ثرية في مقتبل عمرها ..
من الباحة يمّمت طريقها شطر المنطقة الشرقية ، فكان لها المستقر ، فتزوجت وأكملت تعليمها الابتدائي في محو الأمية ، مكتفية من مقاعد الدرس هناك بما تيسر من القرآن الكريم ، وتسطير بعض الحروف ..
وهي في رحلتها ما تزال تطوع ” الملة ” كيفما شاءت لها مخيلتها الإبداعية .. ولم تعرف الألوان وسحرها إلا بعد أن انتقلت إلى الطائف المأنوس .. فهناك شاهدت ، ولأول مرة الألوان الزيتية ، فحرصت على اقتنائها ، فرحت بها ، وأصبحت سعيدة بهذا الكنز الإبداعي الذي سيفتح لها الأفق لتكمل حلمها مع عالم الرسم ..
لكن الواقع كان يخبئ لها تحديًا جديدًا .. فأسرتها ما كانت لتسمح لفتاة بخوض تجربة الرسم وفق ما هو مصان بقيود العادات والتقاليد .. فامتثلت للأمر ، وأطاعت وانصاعت ، وتوقفت عن الرسم .. وظل الحلم كامنًا في روحها ، متوثبًا للخروج ، ومتحفزًا للإطلالة والإشراق .. حتى تهيأت لها الفرصة قبل ما يقارب من 12 سنة من الآن .. وقد إقتربت من الخمسين .. فعادت للرسم من جديد ، مدعومة هذه المرة من زوجها وأبنائها بعد أن تبدّل الحال ..
ها هي “جميلة” اليوم .. تمتح من الذاكرة ، وتجعل منها الثيمة الأساسية في لوحاتها .. لتكتسب لوحتها بعدًا توثيقيًا ، فضلاً عن البعد الجمالي ..
إنها تنحاز لـ” الفرح ” بشكل واضح في لوحاتها .. وحين تسألها عن ذلك ، تحيلك إلى طفولتها الباكرة ، حين كانت تحضر حفلات الأفراح في قريتها ، وتشاهد الرقصات التي تؤديها نساء القرية ورجالها ، في المناسبات المختلفة .. احتشدت ذاكرتها بتلك اللحظات بكل ما فيها من تعدد الألوان والحركات والمشاعر .. فظهرت جلية في منجزها الفني ..
ورغم أنها غادرت الباحة إلى المنطقة الشرقية في سن مبكرة ، إلا أنها ظلت مشدودة ببيئة الباحة في لوحاتها ، متيحة لها مساحة واسعة في مخيلة إبداعها .. ترسم بذات الفطرة القديمة ، كيفما عنّت لها الرؤية ، وانبثقت في داخلها الفكرة ، غير مهتمة بتجنيس لوحاتها في المدارس التشكيلية الحديثة ، ولا علاقة لها بالسريالية والتكعيبية والتجربدية من مستحدثات أهل التشكيل ، غير أنها وثيقة الصلة بلوحتها ، عميقة الحب لفنها ..
سقف طموحها تجاوز مرحلة بيع لوحتها كبقية الفنانين في مزاد الفن المفتوح ، حيث وصل سعر أغلى لوحتها 35 ألف ريال ، كما تجاوز أيضًا مرحلة فوزها العام الماضي بالمركز الثاني في جائزة سوق عكاظ ، التي تقام على هامش الجائزة المحددة في المهرجان السنوي ..
نعم محطة تشعر أمامها بالسعادة والفخر .. لكن كل ذلك وغيره تجاوزته ” جميلة ” لأنها ترنو بعيدًا .. وتحلم بتمثيل وطنها في المعارض الدولية ، وتشعر بأنها قادرة على حمل هذا الطموح بكل ثقة واقتدار ..
عن تواصل غامد