الشاعر الكبير بدوي الجبل.حاول الأسد اغتياله
هو الشاعر محمد سليمان الأحمد، وُلِدَ الشاعر بدوي الجبل عام 1900 م في محافظة اللاذقية في الساحل السوري، ولقبُهُ لقبٌ أطلقَهُ عليه يوسف العيسى صاحب جريدة “ألف باء” الدمشقيّة؛ وذلكَ لأن بدوي الجبل بعث للجريدة صلاة المناضل الإيرلندي “ملك سويني” منظومةً باللغة العربية ووقع أسفلها باسم بدوي الجبل ولم يدوّنْ اسمَه، وعندما سأله الأستاذ يوسف عيسى عن الاسم أجابَهُ بدوي الجبل: “إن الناس يقرؤون للشعراء المعروفين ولست منهم، وهذا التوقيع المستعار يحملهم على أن يقرؤوا الشعر للشعر وأن يتساءلوا: من ذا يكون هذا الشاعر المجيد؟ وأنت في ديباجتك بداوة، وأنت تلبس العباءة وتعتمر العقال المقصب، وأنت ابن الجبل”، تُوفّي الشاعر عن عمر ناهز الثمانين عامًا في عام 1981م مخلِّفًا وراءَه نتاجًا شعريًّا عظيمًا. الأسلوب الشعري عند بدوي الجبل إنَّ الحديث عن الأسلوب الشعري عن بدوي الجبل هو حديث عن الشعر الكلاسيكيّ في أعلى مراتِبِهِ التي كانَ يمثلها الشاعر، حيث كانَ كلاسيكيًّا محققًا التوازن بين فكرة النص الكلاسيكيّ وبين الخيال في هذا النص، وكانَ تأثُّرُهُ بجدِّهِ الذي سُمِّيَ بالمكزن واضحًا من خلال بعضِ الإشارات الصوفية في قصائده، وكانَ معجبًا بالحضارة الأموية أشد الإعجاب، وكانَ ضدَّ الشعوبيين وعكسهم، حيث عاش مفتخرًا بالعروبة والعرب، وقد أكّد بدوي الجبل على أنّه أحد رواد الشعر الكلاسيكيّ إلى جانب الجواهري والأخطل الصغير وعمر بن أبي ريشة، ومن الجدير بالذكر أنّ الشاعر ينتمي إلى الطائفة العلويّة في الساحل السوري، ولكنّه استطاع تجاوُزَ الحدود الدينية الطائفية عندما قال: مسلمٌ كلَّما سجدْتُ لربِّي فاحَ منْ سجدتِي الهُدى والعبيرُ وكلُّ مَن ينظر في شعر بدوي الجبل نظرةً نقديّة يرى تأثُّرَه بالمتنبي واضحًا جليًّا، حتى سُمِّي متنبي القرن العشرين، وقد كُتبتْ عن شعرهِ العديد من الدراسات النقديّة التي لم تُعطِهِ حقَّهُ حتى الآن، ولم يزل شعرُهُ محطّ اهتمامِ كثيرٍ من الدارسين.
قصيدة البلبل الغريب
سلي الجمر هل غالى وجنّ و عذّبا | كفرت به حتّى يشوق و يعذبا |
و لا تحرميني جذوة بعد جذوة | فما اخضلّ هذا القلب حتّى تلهّبا |
و ما نال معنى القلب إلاّ لأنّه | تمرّغ في سكب اللّظى و تقلّبا |
هبيني حزنا لم يمرّ بمهجة | فما كنت أرضى منك حزنا مجرّبا |
و صوغيه لي وحدي فريدا و أشفقي | على سرّه المكنون أن يتسرّبا |
مصونا كأغلى الدرّ عزّ يتيمه | فأودع في أخفى الكنوز و غيّبا |
و صوغيه مشبوب اللّظى و تخيّري | لآلامه ما كان أقسى و أغربا |
و صوغيه كالفنّان يبدع تحفه | و يرمقها نشوان هيمان معجبا |
فما الحزن إلاّ كالجمال ، أحبّه | و أترفه ، ما كان أنأى و أصعبا |
خيالك يا سمراء ، مرّ بغربتي | فحيّا و رحّبنا طويلا و رحّبا |
جلاك لعيني مقلتين و ناهدا | و ثغرا كمطول الرياحين أشنبا |
فصانك حبّي في الخيال كرامة | و همّ بما يهواه لكن تهيّبا |
و بعض الهوى كالغيث إن فاض تألّق | و بعض الهوى كالغيث إن فاض خرّبا |
أرى طيفك المعسول في كلّ ما أرى | وحدت و لكن لم أجد منه مهربا |
سقاني الهوى كأسين : يأسا و نعمة | فيالك من طيف أراح و أتعبا |
و خالط أجفاني على السّهد و الكرى | فكان إلى عيني من الجفن أقربا |
شكونا له السّمراء حتّى رثى لنا | و جرّأنا حتّى عتبنا فأعتبا |
و ناولني من أرز لبنان نفحة | فعطّر أحزاني و ندّى و خضّبا |
و ثنّى بريّا الغوطتين يذيعها | فهدهد أحلامي وأغلى و طيّبا |
و هل دلّلت لي الغوطتان لبانة | أحبّ من النعمى و أحلى و أعذبا |
وسيما من الأطفال لولاه لم أخف | _ على الشيب_ أن أنأى و أن أتغرّبا |
تودّ النّجوم الزهر لو أنّها دمى | ليختار منها المترفات و يلعبا |
و عندي كنوز من حنان و رحمة | نعيمي أن يغرى بهنّ و ينهبا |
يجور و بعض الجور حلو محبّب | و لم أر قبل الطفل ظلما محبّبا |
و يغضب أحيانا و يرضى و حسبنا | من الصفو أن يرضى علينا و يغضبا |
و إن ناله سقم تمنّيت أنّني | فداء له كنت السقيم المعذّبا |
و يوجز فيما يشتهي و كأنّه | بإيجازه دلاّ أعاد و أسهبا |
يزفّ لنا الأعياد عيدا إذا خطا | و عيدا إذا ناغى و عيدا إذا حبا |
كزغب القطا لو أنّه راح صاديا | سكبت له عيني و قلبي ليشربا |
و أوثر أن يروى و يشبع ناعما | و أظمأ في النعمى عليه و أسغبا |
و ألثم في داج من الخطب ثغره | فأقطف منه كوكبا ثمّ كوكبا |
ينام على أشواف قلبي بمهده | حريرا من الوشي اليمانيّ مذهبا |
و أسدل أجفاني غطاء يظلّه | و ياليتها كانت أحنّ و أحدبا |
و حمّلني أن أقبل الضيم صابرا | و أرغب تحنانا عليه و أرهبا |
فأعطيت أهواء الخطوب أعنّتي | كما اقتدت فحلا معرق الزّهو مصعبا |
تأبّى طويلا أن يقاد .. و راضه | زمان فراخى من جماح و أصحبا |
تدلّهت بالإيثار كهلا و يافعا | فدلّلته جدّا و أرضيته أبا |
و تخفق في قلبي قلوب عديدة | لقد كان شعبا واحدا فتشعّبا |
*** | |
و يا ربّ من أجل الطفولة وحدها | أفض بركات السلم شرقا و مغربا |
و ردّ الأذى عن كلّ شعب و إن يكن | كفورا و أحببه و إن كان مذنبا |
و صن ضحكة الأطفال يا ربّ إنّها | إذا غرّدت في موحش الرمل أعشبا |
ملائك لا الجنّات أنجبن مثلهم | و لا خلدها _ أستغفر الله _ أنجبا |
و يا ربّ حبّب كلّ طفل فلا يرى | و إن لجّ في الإعنات وجها مقطّبا |
و هيّئ له في كلّ قلب صبابة | و في كلّ لقيا مرحبا ثمّ مرحبا |
و يا ربّ : إنّ القلب ملكك إن تشأ | رددت محيل القلب ريّان مخصبا |
*** | |
و يا ربّ في ضيق الزّمان و عسره | أرى الصّبر آفاقا أعزّ و أرحبا |
صليب على غمز الخطوب و عسفها | و لولا زغاليل القطا كنت أصلبا |
و لي صاحب أعقيته من موّدتي | و ما كان مجنون الغرور ليصحبا |
غريبان لكنّي وفي و ما وفى | و نازع حبل الودّ حتّى تقضّبا |
و با ربّ هذي مهجتي و جراحها | سيبقين إلاّ عنك سرّا محجّبا |
فما عرفت إلاّ قبور أحبّتي | و إلاّ لداتي في دجى الموت غيّبا |
و ما لمت في سكب الدّموع فلم تكن | خلقت دموع العين إلاّ لتسكبا |
و لكنّ لي في صون دمعي مذهبا | فمن شاء عاناه و من شاء نكّبا |
*** | |
و يا ربّ لأحزاني وضاء كأنّني | سكبت عليهنّ الأصيل المذهّبا |
ترصّد نجم الصبح منهنّ نظرة | و أشرف من عليائه و ترقّبا |
فأرخيت آلاف الستور كأنّني | أمدّ على حال من النّور غيهبا |
فغوّر نجم الصّبح يأسا و ما أرى | على طهره _ حتّى بنانا مخضّبا |
و قد تبهر الأحزان و هي سوافر | و لكنّ أحلاهنّ حزن تنقّبا |
*** | |
و يا ربّ : درب الحياة سلكته | و ما حدت عنه لو عرفت المغيّبا |
و لي وطن أكبرته عن ملامة | و أغليه أن يدعى _ على الذّنب مذنبا |
و أغليه حتّى قذ فتحت جوانحي | أدلّل فيهنّ الرّجاء المخيّبا |
تنكّر لي عند المشيب _ و لا قلى _ | فمن بعض نعماه الكهولة و الصبا |
و من حقّه أن أحمل الجرح راضيا | و من حقّه أن لا ألوم و أعتبا |
و ما ضقت ذرعا بالمشيب فإنّني | رأيت الضحى كالسّيف عريان أشيبا |
يمزّق قلبي البعد عمّن أحبّهم | و لكن رأيت الذلّ أخشن مركبا |
و أستعطف التاريخ ضنّا بأمّتي | ليمحو ما أجزى به لا ليكتبا |
و يا ربّ : عزّ من أميّة لا انطوى | و يا ربّ : نور وهّج الشرق لا خبا |
و أعشق برق الشام إن كان ممطرا | حنونا بسقياه و إن كان خلّبا |
و أهوى الأديم السّمح ريّان مخصبا | سنابله نشوى و أهواه مجدبا |
مآرب لي في الرّبوتين و دمّر | فمن شمّ عطرا شمّ لي فيه مأربا |
*** | |
سقى الله عند اللاذقيّة شاطئا | مراحا لأحلامي و مغنى و ملعبا |
و أرضى ذرى الطّود الأشمّ فطالما | تحدّى و سامى كلّ نجم و أتعبا |
و جاد ثرى الشهباء عطرا كأنّه | على القبر من قلبي أريق و ذوّبا |
و حيّا فلم يخطئ حماة غمامه | وزفّ لحمص العيش ريّان طيّبا |
و نضّر في حوران سهلا و شاهقا | و باكر بالنّعمى غنّيا و متربا |
و جلجل في أرض الجزيرة صيّب | يزاحم في السّقيا و في الحسن صيّبا |
سحائب من شرق و غرب يلمّها | من الريح راع أهوج العنف مفضبا |
له البرق سوط لا تندّ غمامة | لتشرد إلاّ حزّ فيها و ألهبا |
يؤلفها حينا و تطفر جفّلا | و حاول لم يقنط إلى أن تغلّبا |
أنخن على طول السماء و عرضها | يزاحم منها المنكب الضخم منكبا |
فلم أدر هل أمّ السماء قطيعه | من الغيم أو أمّ الخباء المطنّبا |
تبرّج للصحراء قبل انسكابه | فلو كان للصحراء ريق تحلّبا |
و تعذر طلّ الفجر لم يرو صاديا | و لكنّه بلّ الرّمال و رطّبا |
و يسكرها أن تشهد الغيم مقبلا | و أن تتملاّه و أن تترقّبا |
كأنّ طباع الغيد فيه فإن دنا | قليلا . نأى حتّى لقد عزّ مطلبا |
و يطمعها حتّى إذا جنّ شوقها | إليه انثنى عن دربها و تجنّبا |
تعدّ ليالي هجره و سجيّة | بكلّ مشوق أن يعدّ و يحسبا |
و يبده بالسقيا على غير موعد | فما هي إلاّ لمحة وتصبّبا |
كذلك لطف الله في كلّ محنة | و إن حشد الدّهر القنوط و ألّبا |
إلى أن جلاها كالكعاب تزيّنت | لتحسد من أترابها أو لتخطبا |
*** | |
و مرّت على سمر الخيام غمامة | تجرّ على صاد من الرّمل هيدبا |
نطاف عذاب رشّها الغيم لؤلؤا | وتبرا فما أغنى و أزهى و أعجبا |
حبت كلّ ذي روح كريم عطائها | فلم تنس آراما و لم تنس أذؤبا |
و جنّت مهاة الرّمل حتّى لغازلت | و جنّ حمام الأيك حتّى لشبّبا |
و طاف الحمام السمح في البيد ناسكا | إلى الله في سقيا الظماء تقرّبا |
عواطل مرّ المزن فيهنّ صائغا | ففضّض في تلك السّهول و ذهّبا |
و ردّ الرّمال السمر خضرا و حاكها | سماء و أغناها و رشّ و كوكبا |
و ردّ ضروع الشاء بالدرّ حفّلا | لترضع حملانا جياعا و تحلبا |
و حرّك في البيد الحياة و سرّها | فما هامد في البيد إلا توثّبا |
و لا عب في حال من الرّمل ربربا | و ضاحك في غال من الوشي ربربا |
و جمّع ألوان الضياء و رشّها | فأحمر ورديّا و أشقر أصهبا |
و أخضر بين الأيك و البحر حائرا | و أبيض بالوهج السماوي مشربا |
و لونا من السّمراء صيغت فتونه | بياضا نعم لكن بياضا تعرّبا |
أتدري الرّبى أنّ السماوات سافرت | لتشهد دنيانا فأغفلت على الربى |
ألمّ بكفي النجوم و أنتقي | مزرّرها في باقتي و المعصّبا |
دياري و أهلي بارك الله فيهما | و ردّ الرّياح الهوج أحنى من الصبا |
و أقسم أنّي ما سألت بحبّها | جزاء و لا أغليت جاها و منصبا |
و لا كان قلبي منزل الحقد و الأذى | فإنّي رأيت الحقد خزيان متعبا |
*** | |
تغرّب عن مخضلّة الدوح بلبل | فشرّق في الدنيا وحيدا و غرّبا |
و غمّس في العطر الإلهيّ جانحا | و زفّ من النّور الإلهيّ موكبا |
تحمّل جرحا داميا في فؤاده | و غنّى على نأي فأشجى و أطربا |